"الشهادة.. الرؤية.. الأداة"
د. مجدي العفيفي
(1)
هل تُعدُّ شهادتي هذه شهادة مجروحة، عندما أتحدث وأنا أحدق في كينونة الإعلام في سلطنة عُمان سيرورة وصيرورة أيضًا، منذ اللحظة الأولى بكل استطاعتها محاولة التشرنق، مرورا بتحولات نوعية متنوعة، وصولاً إلى اللحظة الراهنة بكل اتساعها؟.
أسأل سؤالي هذا- والسؤال نصف الجواب- وأنا الذي عشت معه وفيه حوالي الثلاثين عاماً بشكل مُتواصل منذ بداية عقد الثمانينيات، بعد مرور عشر سنوات على إشراقة شمس النَّهضة، إذ بدأت مرحلة الاستقرار المجتمعي، ويومها أعلن السُّلطان قابوس بن سعيد «اليوم باستطاعة كل عُماني أن يرفع رأسه عالياً دلالة على فخره واعتزازه بإنجازاتنا التي حققناها« (18 11/1980) وقد صدق الرجل في رؤيته التي ستحسب له يوم ينفع الصادقين صدقهم.
ربما تبدو شهادتي مجروحة.. ربما، إن تحدثت في هذه السلسلة كرجل إعلام فقط، وبالتحديد كصحفي يتحرك في شارع الصحافة منذ الخمسين عاماً، انطلاقاً من قلعة الصحافة العربية «دار أخبار اليوم» التي أتدثر بعباءتها منذ العام 1976، ومن معطفها أيضاً خرج مُعظم الصحفيين وكثيرٌ من المؤسسات الصحفية في عالمنا العربي بصورة أو بأخرى مُباشرة وغير مُباشرة.
لكن هذه الشهادة وقد أشعل مهادها - كفكرة مختزنة في الذاكرة.. والأوراق.. والقلم.. والقلب.. والألم.. والأمل.. والحلم- ما كتبته هنا في «الرؤية» على مدار الأسبوعين الماضيين استلهاماً من أطروحة الأستاذ حمد الراشدي وزير الإعلام السابق التي بثها في كتابه "بين بلاغين" والذي أحسب أنه أول كتاب يتخذ مادته «كلها» من الإعلام الحديث الشامل ككتلة سردية أمينة، مسؤولية وممارسة، وحسب الرجل ذلك.
(2)
حروفي بعد سطور قليلة، هي على وجه الإجمال في هذا المهاد، أما التفاصيل التالية، فتكمن فيها الرؤية والرؤيا.. أسئلة تبحث عن أجوبة.. وأجوبة تبحث عن أسئلة.. تناغم العذوبة والعذاب.. اشتباك الأشواق بالأشواك.. والعبير الذي كان يتصدى للرصاصة الإعلامية.. والأثير العابر للحدود والحواجز.. والمشاهدات العينية والفؤادية.. والشواهد الدالة.. والمشاهد الماثلة.. حكايات.. سرديات.. مواقف.. عواطف.. عواصف.. أناقة سلوكية.. تحرشات إعلامية.. وفاة صحف وميلاد أخرى.. غروب وشروق.. أفول وظهور.. نور ونار.. طغيان فردي وتحضر ذات.. مُفارقات.. ثنائيات.. زوجيات.. متقابلات.. وجوه وأقنعة.. كائنات بلا ظلال.. شخصيات وملامح.. علامات استفهام.. علامات تعجب..أمارات وسيمائيات.. فصول وفواصل.. مطبات صناعية وأخرى طبيعية.. صور ومستندات.. وقائع كانت تبدو غامضة فإذا دلالاتها تتكشف... و...و...و...!
(3)
أقول أحسب أن شهادتي لن تكون مجروحة، ولا أريد لها، ولا ينبغي، لأني سأتحدث كباحث أكاديمي ومحاضر في الفكر النقدي والإعلامي والثقافي وكناقد أدبي مُمارسة وتنظيراً في علم السرد الحديث، رغم أنَّ الحيادية ستكون شاقة إلى حد كبير.. لماذا؟
قبل الإجابة، أستعيذ بالله من قول «أنا».. فقط السياق يستدعي التذكير خاصة لقراء اليوم من أبناء الأجيال الجديدة المتحركة على الساحة العمانية بكل أطيافها.. فمعذرة وألف معذرة.
سأحاول تحقيق الحيادية، رغم أني - أولاً - عملت في كل وسائل الإعلام العمانية، بدءًا من جريدة الوطن، ثم مجلة السراج، ومجلة العمانية، وجريدة الشبيبة، وجريدة عُمان، ومؤسسة هالي للإنتاج الإعلامي، وقناة مجان الفضائية، هذا إلى جانب إعداد العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية والأفلام التسجيلية والوثائقية، وكتابة نصوص بعض مهرجانات العيد الوطني وشرطة عُمان السلطانية، وغير ذلك.
سأحاول تحقيق الحيادية، رغم أني - ثانياً - وضعت أكثر من عشرة كتب على رفوف المكتبة العمانية أحدثها: الأبعاد المتجاورة في فكر السلطان قابوس 2017 ومن قبلها: النجم الذهبي فنجاء 1989، في الفكر والثقافة والحياة 1993، منظومة المرأة العمانية 1995، نغم عماني عالمي 1998، محاضرات في نظريات الإعلام 1999، منظومة النور والخير والجمال 2000، عبَّـاد يتحرر من الشمس 2000، الموسيقى العسكرية مهرجان التاتو 2002، الشورى والمجتمع 2007، منظومة الثقافة العُـمانية 2006، انتخابات الشورى الرؤية والأداة 2015، وتحت الطبع أكثر من كتاب.
سأحاول تحقيق الحيادية، رغم أني- ثالثا- ساهمت، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، في نشر شرائح المشهد العماني بكل تجلياته ومساراته، في العديد من الصحف والمجلات العربية والإقليمية التي كنت أدير مكاتبها في مسقط مثل: صحف دار أخبار اليوم العشرة، صحف دار السياسة الكويتية، مجلة فوربز الأمريكية دبي واشنطون، مجلة المجلة وجريدة الشرق الأوسط لندن، مجلة زهرة الخليج أبوظبي، وغيرها.
(4)
وتأسيساً على ذلك.. أغلِّب الروح الأكاديمية الحادة على الروح الصحفية المنحازة إلا قليلاً، وأُعلي من شأن الموضوع على الذات، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، هذه واحدة، والثانية أن بعضا من سطور هذه الأطروحة أوردتها إجمالا في كتابي الذي سأظل أفخر به ما حييت «الأبعاد المتجاورة في فكر السلطان قابوس» وأستعيد بعضا منها موجهاً الخطاب إلى من لم يتمكن من الإطلاع عليه وقد صدر عام 2017 وجرى تدشينه في احتفالية مشهودة بالنادي الدبلوماسي تحت رعاية سُّمو السيد أسعد بن طارق آل سعيد، ولا تزال جمالياتها مثار فخر ومصدر اعتزاز لكاتب هذه الأطروحة.
(5)
أشير مجدداً في هذا المهاد إلى أنه لا توجد وحدة من وحدات الخطاب العماني، مكثفة السعة، مقننة السياق، معدودة مرات ورودها في نصوصه مثل الوَحدة الإعلامية، وقد قصد الخطاب ذلك قصدًا مبينًا، منذ أن خلَّق النواة الأولى لرسالة الإعلام في المجتمع الجديد عبر السنوات الأُول للنهضة، صوتًا إذاعيًا وكلمة صحفية وصورة مرئية إذ جاء فيه كما قال السلطان قابوس رحمه الله:"إذا كنت أكره شيئًا فهو الإبهار في الإعلام، أريد أن يأخذ كل شيء حجمه الطبيعي".
وفي لغة تلك المرحلة الأولية ثمَّة عدة علامات تحمل جينات المنظومة الإعلامية العمانية في امتدادها بعد ذلك تشكيلا ودلالة من قبيل: «رسول سلام» و«المرآة الصافية» و«الفكر الإعلامي» و«الصدق» و«الموضوعية» و«دون مبالغة أو تهويل» و«لايعتمد على الإثارة» و«نقل الحقائق» و«الغذاء اليومي للرأي العام» و«النقد البناء» و«كلمة صادقة وخبر صحيح» و«صيانة الحريات» و"التطور النوعي والفكري".
تلقت وسائل الإعلام باعتبارها «المرسَل إليه» هذه «الرسالة» من المرسِل الذي هو «الخطاب» فتحملت أمانة الاتصال بالمجتمع والعالم، رغم الإشفاق عليها من زخم التحديات والتصدي لها، مدركة حساسية تلك الفترة منذ منتصف السبعينيات، حيث كانت التحديات السياسية والاجتماعية سافرة، تزامنت مع بداية عهد جديد ولا بد من تثبيت دعائمه، وتزامن مع ذلك بناء المجتمع وتنميته، ومعالجة قضايا التغيير الاجتماعي».
وكان الإعلام العماني منذ مطالع مرحلة الثمانينيات، يسير على حد السيف، وكأنه يتمثل«شعرة معاوية»في تعامله مع الأحداث الداخلية حيث المجتمع الذي اقتحم عملية البناء وإعادة الصياغة والتخلص من شبح حرب العصابات في جبال ظفار، أم في تعاطيه مع التحديات الإقليمية حيث الأخطار المحدقة بدول الخليج والجوار من كل ناحية، والسعى لتمزيق المنطقة العربية والشرق الأوسط بأسره، الذي شهد ثلاث حروب (الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988) ثم (حرب الخليج الثانية 1990) ثم (حرب الخليج الثالثة 2003) وصولا إلى عقد الألفية الثالثة حتى استوت نسبيًا على شاطئ الاستقرار المحفوف بالتوتر على الصعيد العالمي، فكانت الرسالة الإعلامية العمانية مدروسة منذ البداية، وكان يتمثلها أيضا في تحاوره مع العالم حيث التأكيد على الشرعية الدولية التحامًا بهيئات العالم ومنظماته واستعادة الدور العماني بشكل معاصر، خاصة أن هذا السعي قد تزامن مع سقوط قوى عظمى وصعود قوى أخرى بشكل يتخذ من الهيمنة سبيلا في العلاقات الدولية، فكان على الإعلام العماني أن يتمثل ما صرح به الخطاب السلطاني بأن "العالم لا يعترف إلا بالأقوياء".
(6)
وأعود مؤكدا القول أنه حقيق علىَّ أن أقول إن الخطاب العماني في كليته والخطاب السلطاني في خاصيته، قد أوقف على الإعلام رجالا يعرفون بسيماهم من حيث قوة الانتماء والإيمان بحقيقة المجتمع الجديد، ومدى إدراكهم لجسامة المسؤولية، ومقدرتهم على تحقق استثمار عنصري المواكبة والمواجهة معًا، وتعزيز طرفي هذه المعادلة بالعلم والمعرفة لاستيعاب متغيرات العصر التي طغت على ثوابته، فجعلت مناطق كثيرة وساخنة من العالم تتعرض للاهتزاز الحضاري، وفي أول قائمتها منطقة الشرق الأوسط.
(7)
وكان من أوائل هؤلاء الرجال وأطولهم عمرا إعلاميا وتقويما إعلاميا أيضا (23 عاما متواصلة) أبو الإعلام العماني معالي «عبد العزيز بن محمد الرواس» 1979- 2002 أطال الله عمره وأمده بالصحة والعافية.
وإلى لقاء قادم... إن كان في العمر بقية.