الدكتور مجدي العفيفي
أمريكا: التي اقتلعت الوتد الأول.. وراحت تعبث بأوتاد الأرض كلّها
(13)
في التاريخ مشاهد لا تُنسى، لا لأنها مرّت، بل لأنها لم تنتهِ بعد.
واحدة من هذه المشاهد بدأت حين اقتلعت أمريكا وتدًا ثابتًا في أرضٍ لم تكن لها: وتد «الهنود الحمر».
لم يكن الأمر غزوةً عابرة ولا استعمارًا مألوفًا كغيره من سلاطين التاريخ.. كان اقتلاعًا جذريًا لجغرافيا وبشر وهوية.
اجتثّت الأرواح من تربتها، زرعت الخرائط على جثث الشعوب، وسمّت نفسها دولة!
ومنذ تلك اللحظة، منذ أن حرّكت أمريكا أول وتد وسلبت أول وطن، وهي تعيش في خيمة لا جذور لها، وتحاول أن تُثبّت خيام العالم بطريقتها: بخيوط من الخوف، وأوتاد من الحديد.
أمةٌ لا جذور لها.. وتريد اقتلاع الجميع.
ليست أمريكا كأي إمبراطورية سابقة.. فروما كانت ابنة حضارة، وبريطانيا وريثة إمبراطورية، والعثمانيون سلالة عميقة في الزمن.. أما أمريكا، فهي أرضٌ بُنيت على جريمة، ثم كتبت تاريخًا بلا أصل.. سرقت ترابها من أهلها، وجمعت قومها من كل الجهات، فلم يكن لها لسانٌ واحد، ولا دينٌ واحد، ولا شجرة نسب تمتد تحت الأرض.
ولهذا، لا تطيق أن ترى جذورًا تضرب في العمق..
تخيفها الحضارات التي سبقتها: كالصين، كإيران، كالعرب، كروسيا الأرثوذكسية..
تقلقها الثقافات التي تتوارث الأرض بالأغاني والملاحم والأنساب..
تُرعبها المجتمعات التي تنتمي، فتُشكّل ذاتها دون إذن..
(14)
فما الحل؟
أن تُحرك الوتد.. أن تخلخل جذور غيرها، كما اقتلعت جذورها ذات يوم.
أمريكا ووتد العالم: الفوضى بوصفها نظامًا.. من فيتنام إلى العراق، من تشيلي إلى ليبيا، من سوريا إلى أوكرانيا...
ما من خيمة إلا ومدّت يدها لتزعزع أوتادها.
تدخل باسم "الحرية"، وباسم "حقوق الإنسان"، وباسم "الأسواق المفتوحة"، لكنّ النتائج دائمًا واحدة: دولٌ مدمّرة، مجتمعات مفككة، وثروات منهوبة.
لم تكن أمريكا يومًا تبني.
هي بارعة في الهدم، محترفة في زعزعة التوازنات، ماهرة في إعادة رسم الخرائط بالنار.
هي لا تدخل لتقيم خيمة جديدة، بل لتُحرك وتدًا في خيمة قائمة، ثم تقف جانبًا، تراقب الخراب، وتبيع لمن نجا أدوات إعادة الإعمار.
(15)
لماذا تُصرّ أمريكا على تحريك أوتاد العالم؟
لأنها لا تعيش إلا في عالمٍ مضطرب، كلما استقرت خيمة، كلما ازدهرت حضارة خارج مظلتها، شعرت بالخطر.
الاستقرار في الشرق الأوسط: يعني خروج النفط من قبضتها.
تنامي قوة الصين: يعني نظامًا عالميًا لا يحتاجها.
وحدة أمريكا اللاتينية: تعني أن شعوب الجنوب ترفض الوصاية.
تفوّق روسيا التكنولوجي أو العسكري: تهديد لمكانتها الاستراتيجية.
ولذلك، لا بد من الفوضى.. لا بد من تحريك الأوتاد، من دعم الثورات هنا، والانقلابات هناك، من تسليح هذا الطرف، وتشويه ذاك، وتمويل الإعلام، وإغراق الأسواق، وبث الذعر.
هي لا تملك من مقومات القوة ما يكفي لتقود العالم بالرضا، فتقوده بالخوف.
الدولة التي لا تتحمّل خيمة ثابتة.
الإنسان حين يكون ابن أرض، يزرعها، يحبها، ويحفظها.
لكن أمريكا -وهي ابنة اغتصاب- لا تعرف المعنى الحقيقي للانتماء.
ولهذا، تُعامل الأرض بوصفها ساحة حرب دائمة، والمجتمعات كخيم مؤقتة.
تستثمر في الهشاشة، لا في الاستقرار.
تراهن على التفوق العسكري لا على شرعية القيم.
تتحرك كما يتحرك الشيطان.. لا يظهر إلا حين تُحرك الأوتاد.
(15)
من الذي يثبت الوتد في وجهها؟
لن نُفاجأ إن قال إبليس ذات يوم: "أما أمريكا.. فهي تلميذتي النجيبة."
فهي تفعل فعله، وتحرّك الأوتاد كما علّمها، لكنها طمعت أن تحكم الخيمة كلها.
لكن التاريخ، وإن تأخّر، لا يُخطئ الحساب.
ومن حفر أول وتد فوق جثة، سيُدفن يومًا تحتها.
وما من يدٍ حرّكت الأوتاد في كل جهات الأرض، إلا وجاءها يومٌ ترتجّ فيه خيمتها.
فلا تكن من الذين يحركون الوتد.. ولا من الذين يُصفقون لمن يفعل.
بل كن من الذين يربطون الأرض برحمة، ويُقيمون فوقها خيامًا لا تُهدم بأهواء إبليس، ولا بيد أمريكا.
(16)
السؤال المستحيل: من الذي يثبت الوتد في وجه أمريكا؟
ليس صعبًا، بل أقرب إلى المستحيل.. كأن تسأل: من يوقف الريح إن هبّت؟
من يصمد في وجه الطوفان وهو عارٍ إلا من صدقه؟
من الذي يثبت الوتد في وجهها؟
أمّةٌ لا تخاف...
لكن من أين نأتي بها في زمنٍ صار فيه الخوف عقيدة؟
أمّة تعرف نفسها...
لكن من يدلّها على مرآتها وقد كُسرت في ألف ثورة؟
أمّة لا تُفتن بالبريق...
لكن من يحفظ البصيرة في زمنٍ تُصنع فيه الآلهة على شاشات الهواتف؟
(17)
من يثبت الوتد في وجهها؟
رجلٌ لا يُشترى، امرأة تُرضع أبناءها الكرامة قبل الحليب، شاعرٌ يصرخ بالكلمة، رغم أن الميكروفونات ليست له، عالمٌ لا يبيع علمه في سوق الدولار، فلاحٌ يعرف أن الأرض لا تُؤكل من غير كف، قائدٌ لم يتوضأ بدم شعبه ليجلس على الكرسي، صحفي لم يبع الخبر في مزاد السفارات، أمّ لم تنم على أغنية "احنا مالنا؟"
من يثبت الوتد في وجهها؟
لا يكون فردًا، ولا فكرة، بل يقظة جماعية.
حين تتحرر العقول من استلابها،
وحين تتذكر الشعوب أنها كانت تُعرف لا بما تستهلك، بل بما تُنجز،
حين لا تعود "أمريكا" حلمًا، بل كابوسًا يُقاوَم،
حين لا نخاف من أن نُسمّي السارق سارقًا، والمستعمر مستعمرًا، والقاتل قاتلًا...
حينها فقط، يمكن ليدٍ أن تمتد، وتثبت الوتد في وجه العاصفة، وتقول لإبليس الأكبر: كفى.
لكن حتى ذلك الحين...
فاحمل وتدك بيمينك، وثبّته حيث أنت.
ربما لا تُوقف الريح، لكنك تكون قد منعت الخيمة من السقوط، ولو على رأسك وحدك.
،،،
ونواصل السردية الوتدية الإبليسية
إن كان في العمر بقية..