في المساحة المتحركة «بين بلاغين» (1 -3)

 

 

د. مجدي العفيفي

 

 (1)

أما المساحة المتحركة فهي بين عام 1974 وعام 2012، وأما الذي قطع هذه المساحة فهو وزير الإعلام السابق الأستاذ حمد بن محمد  الراشدي، وهو يسجل خطواتها في كتابه "بين بلاغين".

أما البلاغ الأول فكان في الأسبوع الرابع من يونيو من عام 1974م، حيث أعلنت في الإذاعة العمانية عقب إحدى نشراتها المسائية أسماء المقبولين في وزارة الإعلام والسياحة، وقد سبق الإعلان انتظار لم يدم طويلا بعد أداء امتحان شفوي ومقابلة أمام لجنة يرأسها وكيل وزارة الإعلام والسياحة حينذاك عامر بن علي المرهوبي.

أما البلاغ الثاني.. فقد تمثل في اتصال هاتفي بعد حضور اجتماع اللجنة العليا للخطة الخمسية بمقر مجلس الوزراء بمسقط، من معالي السيد وزير ديوان البلاط السلطاني نقل فيه سلام وشكر جلالة السلطان ـ حفظه الله ورعاه ـ والإبلاغ بتعديل وزاري وتعيين وزير جديد للإعلام، وبين البلاغين جرت أنهر وساحت أودية، هكذا يصفها حمد الراشدي في كتابه.

(2)

على وجه العموم ثمة عناوين يمكن رصدها مبدئياً في عدة أمور؛ إذ يمتلك المؤلف ذاكرة حية ومتوهجة، للإنسان والزمان المكان، ويفيض بها على المتلقي بدقة، منذ صباه وحتى اللحظة الراهنة، أطال الله عمره.

ويتجلى الوفاء سمة من سماته الكتاب، وواحدة من قسمات الكاتب، الذي يكنه لكل من عاش معهم وتعايش، سواء الذين تلقى العلم منهم، أم الذين عمل معهم وهو يصعد السلم الإعلامي، أم الذين  تعاونوا معه لتنفيذ رؤيته الإعلامية حين جلس على كرسي وزارة الإعلام.

ثم مجموعة هائلة من المستندات والوثائق التي تساهم في تسجيل مشواره الإعلامي، كمزامنة بين الكلمة والصورة، بين المعلومة والوثيقة، بين الماضي والحاضر.

ثم هو شاهد على التحولات الإعلامية ومشارك فيها أيضا، وهو أمر يضفي الكثير من المصداقية، ويمثل معادلا موضوعيا في المنظور بعدستيه الخاصة والعامة. وقد حق له أن يقول :« «قُدّر لي بأن أكون مشاركا في جانب مهم من مسيرة التنمية العمانية الحديثة، التي انسكب سيلها العارم وعم غيثها عمان من أقصاها لأقصاها، بعد تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم الحكم في 23 يوليو 1970م، وأنني كنت عند بداية النهضة في العقد الثاني مما كتبه الله لي من عمر، فقد هيأ لي ذلك أن أعيش زمن ما قبل النهضة المباركة، لتكون صور المقارنة معاينة واضحة أمامي وأمام كل من كان من جيلي، ليدرك حجم التحول التاريخي الذي أحدثته النهضة على كل ذرة من الأرض العمانية».

وتبقى الإشارة إلى قيمة مضافة، هي قيمة المزاوجة بين العلم والعمل، بين التنظير الأكاديمي الذي استقاه من جامعة عين شمس، وبين التطبيق العملي بكل مساراته، وهما الجناحان الذي حلق بهما في فضاء  العالم الإعلامي.

(3)

لابد من الوقوف أمام العتبات النصية في هذا الكتاب، تلك التي تتمثل أهميتها في كونها مفتاحا مهما في دراسة النصوص، بل يتعاظم دورها في أنها لا تقوم في العبور من العتبات إلى النص، أو من الفاتحة إلى الخاتمة، إنما في العبور بين النص والقارئ، بين الداخل والخارج، بين الفني والجمالي، بكيفية مفتوحة   ليصبح بناء التأويل والدلالة قائماً على أساس حركة الذهاب والإياب من النص إلى العتبة ومن العتبة إلى النص، وهنا يفكر عنوان "بين بلاغين"  كثيرا  لنص الكتاب، كأولى العتبات النصية، إذ يتجاوز العنوان كونه مجرد مرآة تعكس المضمون، أو مفتاحا ميسرا لولوج عوالمه، بما يحمله من قيمة جمالية وإشهارية، باعتباره عقدا بين الكاتب والكتابة من جهة، وعقدا قرائيا بينه وبين جمهوره وقرائه من جهة ثانية، وعقدا إشهاريا بينه وبين الناشر من جهة ثالثة، وبالتالى يبدو كأنه نص صغير انبثق من آخر أكبر منه، ويكمله في الوقت ذاته، ويدور في فلكه ومداره، كما نقول في الدراسات السردية.

وقد أرفق حمد الراشدي العنوان الرئيسي بعنوان شارح «سيرة مع أهم التطورات في الإعلام العماني» لترتفع درجة إضاءة المقصد، ويثبت المؤلف المشاهد التي سيقدمها فيجعلنا نتحرك في أطرها بشكل أكثر تحديدا، وهذه مهارة منه، كنوع من الغواية المشروعة.

والعتبة الثانية هي عتبة التمهيد، وفيه يحصر الكاتب المساحة الزمنية عامة بين شهر يونيو 1974 وشهر فبراير 2012 كما سنرى، وذلك يعد مهادا للمقدمة التي وضعها بمثابة بيان للطبيعة الجغرافية الكتاب والمسلك التاريخي والتصنيف الموضوعي للرحلة الإعلامية..  ثم تبدأ متواليات السيرة والمسيرة  وخطوات السيرورة والصيرورة  من خلال العتبات النصية التي نعبرها  للدخول إلى أبواب الكتاب.

(4)

خمسة أبواب فاتحتها مقدمة عن المدرسة القابوسية، تحمل كثيرا من الإشارات المركزية في ثنايا الكتاب،  وخاتمتها نقطة تنوير إعلامية مكثفة سعتها أربعون عاما من الزمن الطبيعي، ومضاعفا من الزمن العملي، وكل باب من هذه الأبواب به مجموعة من المحاور أو الفواصل، ففي الباب الأول( في الإذاعة) سبعة فواصل ترصد وجوده في العمل الإذاعي بين القاهرة ومسقط ومن الأخيرة إلى العديد من الأماكن بحكم العمل الأثيري.

وفي الباب الثاني (في ديوان الوزارة) 21 فاصلة عن عثوره على ضالته، ودرجات أخرى في السلم الإعلامي حين أسند إليه الى جانب عمله أعمال مدير عام الإعلام والمشاركة في إعداد قانون المطبوعات والنشر، والموازنة بين الجانب العملي والتحصيل العلمي في جامعة عين شمس المصرية، وغير ذلك مما لا تتسع المساحة لذكره.

وفي الباب الثالث (في دار الجريدة) «عمان» التي تولى إدارتها في 6 مايو 1985 وكانت نقطة تحول مضيئة في المشوار، ومعه 16 فاصلة إضافة وإضفاء وتنويعات صحفية ومهنية.

(5)

طوال قراءتي لهذا الثالث وأنا أستعيد مزامنتي لحضوره الصحفي بجريدة عمان عام 1985، وهو العام الثاني لوجودي الصحفي في السلطنة آنذاك، ثم  تعيينه مديرا عاما ورئيسا للتحرير، وأشهد أنه ترك بصمة واضحة كانت مهادا لما بعدها من بصمات، كقيمة لتسلسل الأجيال في المشهد العماني.

وتتوالى الاستدعاءات بعودته إلى وزارة الإعلام وكيلا للشؤون الإعلامية عام 1987، وكانت هذه المرحلة من أكثر المراحل تمايزا في المسيرة الإعلامية للإعلام العماني عموما، فالجميع كان يشارك في صياغة المنظومة الإعلامية تحت إشراف معالي عبد العزيز بن محمد الرواس، وتبدو الأهمية أيضاً من أن عقدي السبعينيات والثمانينيات ومنتصف التسعينيات كانوا من أكثر الحقب توترا على الصعيد الخليجي والعربي والدولي سياسيا وعسكريا واجتماعيا مما لا يخفى على أحد، ومن ثم كان الإعلام العماني منذ مطالع مرحلة الثمانينيات، يسير على حد السيف، وكأنه يتمثل «شعرة معاوية» في تعامله مع الأحداث الداخلية؛ حيث المجتمع الذي اقتحم عملية البناء وإعادة الصياغة والتخلص من شبح حرب العصابات في جبال ظفار، أم في تعاطيه مع التحديات الإقليمية حيث الأخطار المحدقة بدول الخليج والجوار من كل ناحية، والسعي لتمزيق المنطقة العربية والشرق الأوسط بأسره، الذي شهد ثلاث حروب (الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1998) ثم (حرب الخليج الثانية 1990) ثم (حرب الخليج الثالثة 2003)  وصولاً إلى عقد الألفية الثالثة حتى استوت نسبيًا على شاطئ الاستقرار المحفوف بالتوتر على الصعيد العالمي، فكانت الرسالة الإعلامية العمانية مدروسة منذ البداية.

وكان يتمثلها أيضاً في تحاوره مع العالم حيث التأكيد على الشرعية الدولية التحامًا بهيئات العالم ومنظماته واستعادة الدور العماني بشكل معاصر، خاصة وأن هذا السعي قد تزامن مع سقوط قوى عظمى وصعود قوى أخرى بشكل يتخذ من الهيمنة سبيلا في العلاقات الدولية، فكان على الإعلام العماني أن يتمثل ما صرح به الخطاب السلطاني بأن «العالم لا يعترف إلا بالأقوياء»  من أجل ذلك أوقف الخطاب السلطاني على الإعلام رجالا يعرفون بسيماهم من حيث قوة الانتماء والإيمان بحقيقة المجتمع الجديد، ومدى إدراكهم لجسامة المسؤولية، ومقدرتهم على تحقيق استثمار عنصري المواكبة والمواجهة معًا، وتعزيز طرفي هذه المعادلة بالعلم والمعرفة لاستيعاب متغيرات العصر التي طغت على ثوابته، فجعلت مناطق كثيرة وساخنة من العالم تتعرض للاهتزاز الحضاري، وعلى أول قائمتها منطقة الشرق الأوسط، وذلك طبقاً لما أشرت إليه في كتابي "الأبعاد المتجاورة في فكر السلطان قابوس".

(6)

نصل إلى الفصل الرابع (في الدور الثالث) في إشارة إلى مكتب وكيل وزارة الإعلام بالطابق الثالث، وفي هذا الفصل ذي الـ41 فاصلة، يفرد الكاتب حديثه لغواية الصورة الإذاعية والتليفزيونية، من حيث الرسالة والمحتوى، وبداية عصر القنوات الفضائية، وفرسان الأخبار، ونادي الصحافة، والتعاون الإعلامي الخليجي والإسلامي، والأيام العمانية خارج عمان، وغير ذلك من الفواصل التي تستقطبك وتغريك وتغويك على القراءة. 

أما الفصل الخامس (في الدور الخامس) ذي الـ35 فاصلة فقد خصصه الأستاد حمد الراشدي بصفته وزير الإعلام، الذي تسلم الأمانة الإعلامية في يونيو 2001م. وهذا الفصل يحتاج وقفة متأنية في المقال القادم، إن كان في العمر بقية.