المرأة العمانية.. مصباح لا ينطفئ (2)

د. مجدي العفيفي

في ضِياء الاحتفاءِ العمانيِّ الخاص بالمرأة العُمانية، وفي نور يومها السنوي 17 أكتوبر، نصغي إلى عزف خاص من هذه المعزوفة أو السيمفونية التي تقدمها الإعلامية منى بنت محفوظ المنذرية، وهي تستقطر تجربتها التي استغرقت كل عمرها في المجال الإعلامي، وتمزجها بالتحولات التي شهدها المرأة العمانية الحديثة في المسارات التي سلكتها.

وتتجلَّى رؤيتها في كتابها "المرأة العمانية.. مصباح لا ينطفئ" الذي نتصفحه، حول المرأة كسؤال النهضة الدائم والمستمر، وهو سؤال يُثير أكثر من علامة استفهام، تنساب إجابته في رصد النقلات النوعية التي حققتها المرأة العمانية والتي تحققت لها، وتسجل الدور السياسي للمرأة العمانية، كأول امرأة في منطقة الخليج تمارس حقوقها السياسية تصويتا وتمثيلا، في وثبة حضارية غير مسبوقة، جعلت المجتمع يتقبلها قبولا حسنا.

ثم هي تستخلص ملامح الخطاب الإعلامي للمرأة؛ سواء الذي تصيغ مكوناته بنفسها، أم الموجه لها، عبر صورتها في وسائل الإعلام، وكيف استثمرت هي هذا الخطاب، وإلى أي مدى تمكنت من تحويله لصالحها.

كما تحلل خطاب المرأة الثقافي، بطرح مفرداته الإبداعية في عالم الآداب والفنون بمختلف تشكيلاتها، وكيف تعبر المرأة العمانية عن رؤاها للإنسان والعالم والكون، وتؤكد منى بنت محفوظ المنذرية أن المرأة العمانية مصباح نسائي لا ينطفئ، ولا ينبغي له؛ لأنه يستمد نوره من شجرة النهضة العمانية التي زرعها جلالة السلطان قابوس بن سعيد في الثالث والعشرين من يوليو 1970 في أرض عمان الطيبة التي لا تقبل أن تنبت إلا طيبا.

يُوسع الخطاب العماني مساحة ملحوظة للمرأة العمانية، بكل شرائحها وأطيافها، على الرغم من أنه خطاب يتوجه للمجتمع بكليته عبر تحولاته النوعية وانعطافاته المرحلية، والذي يراقب الوجود النسائي على الخريطة العمانية الاجتماعية تستوقفه أكثر من علامة تعجب وإعجاب أيضا، داخل السياق الاستفهامي والمعرفي: لماذا هذه الخصوصية للمرأة في الخطاب السلطاني بشكل خاص، والخطاب العماني بمنظوره الكلي؟ وما هي الفواصل التي تشكل معطيات وعطاءات المرأة؟ وما هي الرسالة التي يريد الخطاب توصيلها للمرأة باستمرارية إشاراته التي تتردد في ثناياه؟ وكيف تستقبل المرأة هذه الرسالة وما وراء سطورها؟ وإلى أي حد استوعبتها منذ بداية ترددها؟ وكيف تمكنت من ترجمتها على صعيد الواقع علميا وعمليا؟

هكذا تتكاثر علامات الاستفهام بقدر ما تتباين الإجابات، مثلما تتوالى التحولات التي يفضي بعضها إلى بعض، وتتعاقب النقلات المفصلية التي تؤكد تصاعد المؤشر رأسيا وأفقيا، ليشكل منظومة نسائية متناغمة في مرايا متجاورة ومتحاورة مع كل أنساق النهضة العمانية التي تمضي في مسارات متشابكة.

ومن أجل ذلك، وضعت منى بنت محفوظ المنذرية على رفوف المكتبة كتابها هذا، ومن بين جمالياته هذه المرة، تلك الرسائل العشر التي تتخلل رؤية السلطان قابوس رحمه الله، في طبقات خطابه عبر الخمسين عاما الماضية من عمر النهضة، والتي استخلصتها المؤلفة بذكاء إعلامي في كتلة سردية جديرة بالتوقف والإعجاب والتعجب، إذ ترى أن الخطاب السلطاني كان يحرص على أن لا تعيش المرأة العمانية كجناح مهيض لطائر المجتمع، فأدمج خطابها في الخطاب العماني ضمن النسق الاجتماعي الواحد الذي سعى إليه منذ الومضة الأولى لتباشير الفجر العماني الحديث تنظيرا وتطبيقا.

وينظر الخطاب السلطاني إلى دور المرأة على أنه دور أساسي ومحور تأسيسي، وليس واجهة اجتماعية، ولا وجهة جمالية، بقدر ما هو قناعة سياسية تؤمن بها مسارت الخطاب، الذي سبق كثيرا من خطابات استحقاقات المرأة في العديد من دول المنطقة، واستبق الكثير من الدعوات التي تتبناها المنظمات الحقوقية الخاصة بالمرأة في كثير من دول العالم، وقد اتسم هذا الدور بالتدرج والمرحلية، شأنه شأن كل التحولات التي شهدها المجتمع، كمبدأ أصيل وكملمح راسخ في المنظومة العمانية.

وتقول المؤلفة إنَّ الخطاب السامي يتجلى بمجموعة من الرسائل الخاصة بالمرأة العمانية، وهي رسائل ذات أبعاد اجتماعية المعنى، وطنية النزعة، سياسية المغزى، إنسانية التوجه، وعالمية النظرة، والبحث في ماهية هذه الرسائل ومضامينها، يعين كثيرا على فهم الاستحقاقات التي اكتسبتها المرأة العمانية، بقدر ما يعين على إدراك الأهمية التي تمثلها المرأة في المجتمع، كعنصر خلاق في عملية التنمية على تباين مساراتها ومختلف اتجاهاتها.

ثم إنَّ هذه الرسائل التي استوعبتها المرأة وأدركت مراميها وسعت كثيرا لتحقق أهدافها، تومئ إلى مدى الرعاية السامية لتحفيز نصف المجتمع، فيكتمل العطاء وتستمر النهضة في منجزاتها المتنوعة، بل هي تشف أيضا عما ينتظرها في المستقبل من عطاءات ذاتية وموضوعية، وهي أيضا رسائل تحمل من إشارات تحولت إلى بشارات، فتجسدت مكرمات سامية، شكلت لبنات مركزية في تشييد قوام المنظومة النسائية، بل جعلت المرأة سؤالا كبيرا في خطاب النهضة الحديثة.

وتشير الكاتبة المنذرية إلى أنَّ الخطابَ السلطانيَّ لم يترك المرأة تخوض وحدها بحر الحياة الجديدة في تشكيلاتها المتلاحقة، إنما أخذ بيدها، وأضاء لها الطريق، وأفسح لها مكانا، وثبت لهامكانة، وأعطاها مفاتيح الحركة الاجتماعية، وأنشأ لها المؤسسات لتتفاعل معها، وتستنبط وتحقق ذاتها، ومنحها الحرية لتبدع وتنتج، وليجني المجتمع ثمار هذا التحول، ويقتطف منها ما يثري تحولاته في التنمية الشاملة.

بل إن من لطائف صنيع جلالته، رحمه الله، أنه كان بين الحين والآخر يؤكد مضامين الرسائل، ويتأكد من ترجمتها تصديقا على أرض الواقع، ويرسل إشارات مستمرة، لتشجيع المرأة على مواجهة التحديات التي قد تظهر في طريقها، ولا بد أن تظهر بحكم سنن التطور، وأن الصراع بين القديم والجديد لابد أن ينتهي لصالح الجديد.

وقد انحازت المرأة العمانية إلى هذا الجديد، حتي إنَّ الراصد لمؤشرات الحركة النسائية في المجتمع، لابد أن يسجل سرعة استجابة المرأة للنداءات السامية، مستندة في ذلك إلى عدة مرجعيات تشكل لها ظهيرا قويا ومستمرا.

هناك المرجعية المعرفية المتمثلة في انتشار التعليم وتهيئة عوامل الوعي، والثقافة والتثقيف، وتحصيل العلم ومواكبة منجزاته وأساليبه وطرائقه، وهناك المرجعية العرفية التي تتعزز داخلها من عادات وتقاليد المجتمع الأصيلة، وقيمه وأصوله الراسخة التي تظللها المبادىء والقيم الاسلامية، فكانت ولا تزال جزءا لا يتجزأ من الخطة الشاملة للتنمية على كافة الأصعدة.

وتتجاور مع هاتين المرجعيتين مرجعية جمالية تتحلى بها المرأة العمانية في إبداعاتها الخاصة بذاتها، وعطاءاتها العامة التي تضفي وتضيف أبعادا تجميلية في المجتمع؛ إذ تلعب المرأة دورا فعّالا في المحافظة على العادات والتقاليد وعلى التمسك بالهويّة وأصالة وثقافة المجتمع بتكريسها للإرث الثقافي في حياتها اليومية وتمريره للأجيال المتلاحقة، هذا مع الأخذ في الاعتبار قدرتها على الفرز بين بعض الأفكار الرجعية وأحيانا المتشددة التي تنتقص من ممارسة دورها، ومحاولتها التغلب على تداعياتها السلبية.

ثمَّ هُناك المرجعية الأخلاقية إذ زاوجت المرأة العمانية بين الأصالة والمعاصرة، فلم تنعزل داخل غرفة القديم الذي قد يعيق حركة التقدم والتطور، وفي نفس الوقت لم تهرول في شارع الحداثة، بل تنتقي من منجزاته النافع والمفيد بما يتناغم معها فكريا وسلوكيا وأخلاقيا.

وفي المقال القادم، نفتح هذه الرسائل، ونعرضها للضوء الباهر الذي يشرق في هذه الأيام العمانية التي لها خصوصة في النفس العمانية؛ حيث نقترب من شهر نوفمبر الذي يتألق بأنوار العيد الوطني الخمسين للنهضة.