علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الدولية

أحمد النوفلي *

 

يُعتبر موضوع العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن من بين النقاط المهمة جدا على مستوى القانون الدولي؛ وذلك لما أحدثه هذا الموضوع  من خلاف فقهي وسياسي حاد على مستوى العلاقات الدولية، خصوصا إذا علمنا أنَّ المحكمة الجنائية الدولية هي جهاز قضائي مستقل عن منظمة الأمم المتحدة، تأسست بمقتضى معاهدة روما لسنة 1998، وظيفتها تتجلَّى في تحقيق العدالة الجنائية الدولية وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، بينما مجلس الأمن الدولي يعتبر بمثابة السلطة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة، وهو جهاز سياسي يمارس صلاحياته بمقتضى الفصل 6 و7 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة لسنة 1945.

وكما هو معلوم ومؤكَّد أنَّ مَبدأ استقلال القضاء هو من الركائز الأساسية لضمان المحاكمة المنصفة، وأنَّ تدخُّل أي سلطة في أعمال المحكمة يعتبر خرقا لاستقلالية القضاء. فلماذا إذن يمتلك مجلس الأمن سلطة التدخل في أعمال المحكمة الجنائية الدولية؟ أليس من المفروض أن تتمتع المحكمة باستقلالية تامة من مجلس الأمن الذي يطغى عليه الجانب السياسي؟

وتُطرح هذه الإشكاليات كلما تمَّ الحديث عن العلاقة التي تربط المحكمة الجنائية الدولية بمجلس الأمن الدولي؛ لهذا سنحاول في هذه المقالة الإجابة عن هذين السؤالين من خلال تحليل مظاهر تدخل مجلس الأمن في اعمال المحكمة، والتي يمكن حصرها في مستويين كالتالي:

المستوى الأول: سلطة مجلس الأمن في إحالة الحالة إلى المدعي العام

حيث يملك مجلس الأمن سلطة إحالة الحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية استنادا للمادة 13 من نظام روما الأساسي؛ وذلك في إطار تكريس الصلاحيات المخولة له بموجب المقتضيات الواردة في المادة 40 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي لمجلس الأمن صلاحيات قوية جدا باعتباره السلطة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة، ويضطلع بمهام كبيرة للغاية، وهي حماية الأمن والسلم الدوليين.

إذن؛ فجهود المحكمة الجنائية الدولية، وأهداف مجلس الأمن، تنصبُّ في نفس الاتجاه؛ مما يعطي الشرعية على وجود علاقة تعاون بينهما، خصوصا وأنَّ مجلس الأمن لعب دورا مهما في تكريس العدالة الجنائية الدولية عندما قام بتأسيس محكمتي رواندا ويوغوسلافيا السابقة للنظر في الجرائم البشعة التي ارتكبت في هذه الدول.

وتجدُر الإشارة إلى أنَّه إذا أحيلت الحالة من مجلس الأمن، فإنَّ جميع الدول تكون ملزمة بالتعاون مع المحكمة؛ سواء كانت مصادقة على نظام روما الأساسي أو غير مصادقة عليه. كما أن المدعي العام تبقى له الصلاحية في قبول أو عدم قبول الدعوى؛ فهو غير ملزم بالقيام بإجراءات التحقيق، بل تبقى له حرية التصرف؛ حيث بإمكانه ألا يباشر التحقيقات إذا اقتنع أن الإحالة الواردة إليه من مجلس الأمن لا يوجد فيها دليل قاطع يثبت ارتكاب جريمة دولية تدخل ضمن اختصاص المحكمة.

وللإشارة؛ فقد قام مجلس الأمن باستخدام سلطته في الإحالة مرتين منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية؛ وذلك من خلال القرار رقم 1593 الصادر سنة 2005 حول قضية إقليم دارفور بالسودان، ثم القرار رقم 1970 الصادر سنة 2011 حول إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية. بينما فشل في إحالة الوضع في سوريا مرتين بسبب استخدام روسيا والصين حق الفيتو.

وإذا كانت "سلطة الإحالة" التي يمتلكها مجلس الأمن هي مسألة إيجابية، ومن شأنها تقوية القضاء الجنائي الدولي، وأن تسهم إلى حد ما في محاربة ثقافة الإفلات من العقاب، فإنه يمتلك سلطة أخرى من شأنها تقويض عمل المحكمة وإضعافها وجعلها خاضعة له ولأهوائه السياسية، وهي ما تُعرف بـ"سلطة التعليق أو الإرجاء"، وهذا ما سنتناوله في المستوى الثاني.

المستوى الثاني: سلطة مجلس الأمن في تعليق إجراءات التحقيق

حسب المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة، فإنَّ مجلس الأمن يمتلك سلطة اتخاذ قرار يُوصي بمقتضاه بتعليق أو تجميد التحقيق أو المقاضاة لمدة 12 شهرا قابلة للتجديد؛ وذلك في أي مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة؛ حيث تكون المحكمة ملزمة بقبول هذا القرار والتقيد به!

ورغَم كل الدواعي والمبررات السياسية التي من أجلها تم تقرير سلطة مجلس الأمن في تعليق التحقيق والمقاضاة، إلا أنَّها بلا أدنى شك سلطة خطيرة جدا، وقد يسيء مجلس الأمن استعمالها ويجعل المحكمة في تبعية له؛ الأمر الذي يؤدي للمساس باستقلاليتها وفعاليتها. ولو أن مجلس الأمن لم يسبق له أن استخدم هذه السلطة، إلا أنها تبقى مسألة واردة ومحتملة، لذلك كانت ولا تزال المادة 16 من نظام روما الأساسي موضع جدال ونقاش حاد بين أعضاء المجتمع الدولي، حيث طالبت العديد من الدول والمنظمات الدولية غير الحكومية بإزالتها نهائيا من النظام الأساسي للمحكمة. لكن الدبلوماسية الأمريكية كعادتها دافعت بقوة لبقاء هذه المادة (رغم أن أمريكا من الدول غير المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة!!)، وشاطرتها في ذلك دول لها نفس المصالح وهو ما أدى في النهاية إلى الإبقاء على المادة 16 من نظام روما الأساسي رغم ما يوجه لها من انتقادات.

وختاما.. نقول إنه إذا كانت المادة 13 التي منحت لمجلس الأمن الحق في تحريك الدعوى أو إحالة الحالة مقبولة -على الأقل من الناحية المعنوية- نظرًا للدور الذي لعبه في سبيل تكريس العدالة الجنائية الدولية، فإن المادة 16 التي نظمت سلطة التعليق أو الإرجاء هي بدون أدنى شك أخطر مادة في نظام روما الأساسي؛ كونها تضعف المحكمة وتجعلها في تبعية سياسية لمجلس الأمن وتمس بمبدأ استقلالية القضاء الدولي الذي يعد الركيزة الأساسية لأي محاكمة منصفة.

 

* باحث في العدالة الجنائية الدولية