رغبتنا في أن نصبح أقوى وأسرع وأذكى.. هل تقودنا إلى أن نصبح أقل إنسانية؟

مؤيد الزعبي

منذ فجر التاريخ والإنسان لديه نهم لأن يصبح شيئا أكبر مما هو عليه، أرادنا أن نطير فصنعنا الطائرة، أرادنا أن نرى أبعد فاخترعنا التلسكوب، أرادنا أن نُفكر بشكل أسرع فبنينا الحاسوب، واليوم في عصر الذكاء الاصطناعي، لم يعد السؤال الأهم "ماذا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك؟"، بل "إلى أي مدى يمكن أن نتحول نحو إنسانية أقل؟"، فكلما رغبنا بأن نصبح أقوى وأسرع وأذكى فقدنا جزءا من مشاعر الضعف والتعاطف والإبداع وهو ما يُشكل لبّ هويتنا الإنسانية.

في البداية دعنا نتفق أن الرغبة في أن نكون أقوى وأسرع وأذكى ليس فقط جزءا من طموحنا البشري، بل انعكاس لخوفنا من الضعف والفناء، والذكاء الاصطناعي يُقدَّم اليوم كأداة خارقة بإمكانها أن توسّع قدراتنا العقلية، وتساعدنا على اتخاذ قرارات أفضل، وتحل محلنا في الأعمال المتكررة والشاقة، والصورة الظاهرة تبدو وكأننا نقترب من صورة "الإنسان المثالي" الذي لطالما حلمنا به والذي تحدثت معك حوله في مقالات سابقة، ولكن في عمق الصورة هناك تحوّل آخر أكثر خطورة يحدث: انزلاقنا التدريجي نحو ما هو لا-إنساني.

الحقيقة المهمة التي يجب أن تعلمها أن القوة والسرعة والذكاء تخنق بشكل قاتم البُعد العاطفي والروحاني الذي يميّزنا كبشر، وكلما تجاوزنا حدودنا الطبيعية ينمحي معنى الإنسانية، ونحن كبشر رغبتنا بالوصول لأهدافنا أخذتنا لمسارات مشتتة جعلتنا أكثر بعدًا عن حقيقة أننا كبشر لديها قدرات محدودة والكون بأكمله خُلق ليتناسب مع إمكانياتنا هذه، وأنا هنا لا أدعوا ألا نسعى نحو التطور والانكفاء على محدودية قدراتنا البشرية بل دعوتي واضحة وصريحة بأننا يجب أن نحافظ على الجوهر الإنساني بما فيه من عيوب لأننا كذلك، وهذه العيوب هي ما يميزنا.

دعني أجد لك مثالا؛ تخيل معي عزيزي القارئ أنك على بُعد خطوة من اتخاذ قرار معين، وفي حالة أن تتحلى بإنسانيتك ستمارس الشك في قرارك هل هو صواب أم خطأ، ستدرس قرارك وتأثيره الإنساني عليك أو على غيرك، ولكن كلما ازدادت قدراتنا بفضل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا تقل قدراتنا على ممارسة الشك وتقل معها إظهار الرحمة، فالآلة أو البرمجية لا تندم لا تتعاطف، هي فقط تنفذ، ونحن في سعينا نحو الأقوى والأسرع والأذكى سنصبح آلات لا مكان لقيمنا الإنسانية.

قد يقول قائل، ولماذا تظلم الذكاء الاصطناعي والبرمجيات والخوارزميات، وهي مفتاحنا نحو حياة أفضل، هي من ستساعدنا على تشخيص الأمراض المعقدة ومعالجتها، ستساعدنا في التنبؤ بالكوارث الطبيعية، ستساعدنا في تطوير صناعات أكثر كفاءة، وأنا أتفق لا أعارض، فالذكاء الاصطناعي بالنسبة لي هو المرآة التي تُظهر لنا كم يمكن للعقل أن يبدع حين يتحرر من حدوده المحدودة، ولكن هذا لا يعني أن هناك خطوة تكمن في تعظيمنا للنتائج والإنتاجية على حساب الإنسانية، فبالنسبة لي لا أريد ذكاء اصطناعيا يحلل المشاعر بقدر ما أريد أن نشعر نحن كبشر بتلك المشاعر بما فيها من لمسات من الضعف والرحمة والرغبة والتأمل الإنساني، لا أريد أن نلهث لنكون أقوى وأسرع وأذكى دون أن ننسى أننا بشر مجبولون بالمشاعر.

بحسب مراجعة علمية منشورة في قاعدة بيانات PubMed، أشار الباحثون إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى "تجريد الإنسان من إنسانيته" من خلال تأثيره السلبي على التفاعلات الشخصية والعلاقات الاجتماعية، إذ تقول الدراسة إن "البُعد البشري تدريجيا يتقلّص، بينما يحل الذكاء الاصطناعيّ مكان الحاجة إلى اللقاء وجها لوجه لمشاركة الأفكار، ليصبح وسيطا بين الناس"، وهذا ما اقصده أن شدة ارتباطنا بالذكاء الاصطناعي لنصبح أقوى وأسرع وأذكى سيفقدنا الكثير من تفاعلاتنا كبشر.

في ظل واقع شبه محسوم بأن الذكاء الاصطناعي سيتفوق على الإنسان من حيث السرعة والدقة والذكاء، يبرز سؤال جوهري آخر؛ هل سيتفوق علينا ويُقنعنا بأنه أكثر حكمة وإنسانية؟ وبالتالي يصبح هو مرجعيتنا في الإنسانية حتى نصل لمرحلة يكون علينا من الصعب أن نشعر أو نحس دون إرشاد أو توجيه من الذكاء الاصطناعي، وإذا جعلناه مرجعا لقراراتنا، فسوف نبني عالما أكثر كفاءة، نعم أتفق، لكنه أيضا أكثر برودة أكثر قسوة وأكثر قابلية لأن يفقد المعنى، فما يجعل الإنسان إنسانًا هو محدوديته وهشاشته، وحتى أخطاؤه، وهذه العناصر التي نحاول التخلص منها عبر التقنية هي نفسها مصدر التعاطف والحنان والجمال البشري.

نحن لا نملك ترف تجاهل هذه التساؤلات لذلك علينا أن نسأل: كيف نحافظ على إنسانيتنا ونحن نستخدم الذكاء الاصطناعي ونبني عالما تتخذ فيه الآلات قرارات تخص حياتنا ومشاعرنا ومستقبلنا؟ والحل ليس في إيقاف التقدم، بل في أنسنة التقنية بأن نُصمّم أنظمة تكنولوجية تراعي البُعد الأخلاقي، وتُبرمج على التفكير في الإنسانية والبعد الأخلاقي لا فقط "الأداء الأفضل"، وأهم شيء يجب أن نُدخل في الخوارزميات مفهوم الحق في الخطأ كصفة إنسانية تميزنا كبشر.

في الختام نعم عزيزي القارئ نريد أن نصبح أقوى وأسرع وأذكى، ولكن يجب ألا يكون على حساب إنسانيتنا في المقابل، وفي هذا المفترق المعقد يبقى القرار في أيدينا: أن نستخدم الذكاء الاصطناعي ليعزز إنسانيتنا لا أن يُلغيها، فلنحافظ على إنسانيتنا بأن نُصمم مستقبلًا يحترم الضعف بقدر القوة، ويُقدر الشعور بقدر التحليل، فلا نريد أن نصبح لا أقوى ولا أسرع ولا حتى أذكى ونحن كبشر بلا مشاعر، ولا إنسان بلا أخطاء وتأملات وروحانيات، فهذا نحن وكلي أمل أن نبقى كذلك.

 

الأكثر قراءة