عشوائية الإدارة (1)

ما يطلبه أمين السر!

إسحاق البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

 

لم يكن عبثاً عندما استغاث مقالي السابق بصنَّاع القرار الرياضي، بقدر ما كان يحمل في طياته من معاني استنهاض الفكر، ودعوة للتأمل في ما جاء به المقال من نتائج خطيرة تُهدد حياة الرياضة، لأنني وجدت أنَّ مفارقات لائحة الانتخابات وسوء البناء التنظيمي، ألقت بظلالها المؤذية على المؤسسات الرياضية، فهي تعيش حالة الاحتضار الشديد والعناية المركزة، أحاول هنا أن أتناول بعضاً منها بإيجاز لكيلا أرهق مساحة المقال، ومُراعاة لمشاعر القرَّاء لما يحتويه المشهد من مُمارسات إدارية مقززة وحقائق مُؤلمة، جاء بها بعض الذين تسللوا إلى المناصب واخترقوا أنظمة مُعادلة المؤهلات، واشتغلوا بمحو الأمية بدلاً من تطوير الرياضة والرياضيين.

تولي المؤسسات المتطورة اهتماماً بالغاً بأساليب الإدارة الحديثة وسياسات الاختيار والتعيين وأسس المُفاضلة العلمية بين المتنافسين، إيماناً منها بأنَّ رأس المال البشري (الفكري) يُعد من أهم العوامل المُؤثرة على معدلات النمو والإنتاج، ولنا في المقابل أن نتلمس الافتقار الشديد الذي تعاني منه الاتحادات الرياضية لمثل هذه السياسات والعمل بها، ونجد أن عشوائية الإدارة باتت السمة البارزة والقيمة السالبة لإدارة شؤون هذه المؤسسات، التي يطغى عليها الاجتهادات الفردية وقرارات المزاج، دون النظر إلى فلسفة الإدارة ومبادئها التي تؤطر العلاقة بين متغيراتها العلمية ووظائفها في توجيه القوى والموارد لتحقيق أهداف هذه المؤسسات، وليتضح هذا الواقع المرير علينا أن نتأمل ما يلي:

عشوائية التعيينات التي يقودها أمناء السر باتت تخنق معظم الاتحادات الرياضية، حيث نجد الكادر البشري فيها يتشكل بصورة هشة مبنية على العشوائية المفرطة، فلا يستطيع المتأمل تحديد ملامح هذه الإدارات ولا يُمكن أن يعرف رأسها من ذيلها، فهي شكلٌ لا مضمون له، فيتمثل تكوين الإدارة التنفيذية غالباً من المُدير التنفيذي وعدد من شاغلي الوظائف الدنيا الذين لا حول لهم ولا قوة، يعملون تحت رحمة أمين السر وقبضته يتوددون إليه ويرجون رضاه آناء الليل وأطراف النهار، ليس ضعفاً منهم كما يقولون لكنهم أيقنوا أنّها إدارة الشخص الواحد الذي يتباهى بقوته الخارقة وقدرته على تمرير النظريات والدراسات العظيمة التي يجود بها، واعتمادها من المجلس في أي وقت شاء، ضارباً عرض الحائط بالأنظمة والقوانين، وأدلل على ذلك ببعض الأمثلة.

مسلسل التعيين الكبير

يتم تعيين المدير التنفيذي غالباً في أجواء يشوبها الظلام والبؤس وتحدد كفاءته وفقاً للطعم والمذاق الذي تحدده أمانة السر فيصبح عبئاً على وظيفته، وسبباً من أسباب الإعاقة الدائمة للمؤسسة، وعندما ننظر إلى ما يسمى بمسلسل التعيين الكبير، الذي حصل في إحدى المؤسسات الرياضية وكان بطله أمين السر بتلك المؤسسة، وكان ضحاياه أربعة من المديرين التنفيذيين، حيث تمَّ في بضع سنين تعيينهم وإنهاء خدماتهم بنفس الفترة، لأنهم لم يكونوا بمواصفات المزاج المطلوب والمذاق المتوقع، ومما زاد الطين بلة أن يتم الاستعانة بعد ذلك بأحد المبتدئين الذي لازالوا في مرحلة تعلم الأبجديات فما لبث هذا الآخر أن فشل، ثم تُرك المنصب شاغراً ليتلذذ هو بالعشوائية ويتنعم بها.

يتساءل الكثيرون أين دور المجلس بهذه المؤسسة في إيقاف مثل هذه الممارسات العوجاء، وأين دور الجمعية العمومية التي ائتمنتها المنظومة الرياضية على هذه المؤسسة ومقدراتها؟ وكيف لهم أن يجتمعوا ويمارسوا العشوائية بكل هذه القسوة والبشاعة على مصلحة المؤسسة والوطن؟ وهل تم تطبيق آليات الاختيار والتعيين واتباع التسلسل والتدرج الإجرائي في التعيين ابتداءً من الإعلان الداخلي للمؤسسة وضمان حق التنافس بين موظفيها، وانتهاء بما حددته اللوائح لتحقيق معايير الكفاءة؟

التعيينات الموسمية

لم يتوقف حال العشوائية عند هذا الحد بل تجاوزه إلى بعض التعيينات الحائرة، واستحداث بعض المسميات الوظيفية الشكلية والبعيدة كل البعد عن حاجة العمل وتكوين المؤسسة الإداري، فنجد مثلاً تسكين بعض الموظفين المبتدئين مديرين للدوائر ورؤساءً للأقسام في حين لا وجود لمكونات الدائرة ولا القسم أصلاً سوى الحيز المكاني المخصص لها لا أكثر، علاوة على ذلك عدم حصول التدرج الوظيفي اللازم لهؤلاء وتطابق المؤهلات لشغل هذه الوظائف، الذين بلا شك أساؤوا إلى العملية الإدارية ومعانيها السامية الرفيعة ولم يتركوها وشأنها، ليس لشيء سوى أنهم جاؤوا بتوصيات أمين السر الذي يبدو أنه لم يسمع يوماً بالجوانب القانونية ومسوغات وجود الدوائر والأقسام، ظناً منه أنها ضربٌ من ضروب الأحاجي وألغاز الأطفال، يضعها متى ما شاء، ويزيلها متى ما شاء.

وفي خضم هذه المأساة يطرح المقال أسئلته بدهشة، من الذي حَكَمَ على هذه المؤسسات أن تكون في ظل هذه الفوضى الإدارية؟ ومن الذي حَكَمَ على موظفيها بأن تضيع حقوقهم، وتعطل عقولهم، وتنتهك وتغتصب قدراتهم ومؤهلاتهم، وكيف لمجالس الإدارات في هذه المؤسسات أن تسمح بكل هذه العشوائية والتجاوزات الإدارية التي نرى نتائجها السيئة والمخيفة تزداد يوماً بعد يوم على أداء المنظومة الرياضية؟ لماذا لا تقوم الجمعيات العمومية بأدوارها الرقابية واستخدام أدوات التقييم والمساءلة لأداء مجالس الإدارات التي حددتها لهم الأنظمة الأساسية؟

بات جلياً واضحاً مدى هشاشة وفشل الجمعيات العمومية ومجالس الإدارات بالمؤسسات الرياضية من القيام بأدوارها، والتي تفتقر في حقيقتها إلى وجود القياديين الذين يتصفون بالحس الإداري وذائقة الاختصاص فيه، وتزخر في المقابل برواد العشوائية والتخبط الذين خلَّفوا من بعدهم إرثاً بائساً ثقيلاً على الرياضة، تحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجتها وتصحيح مسارها، فالضرورة تقتضي الوقوف على أداء هذه الجمعيات ومجالس الإدارات، للمُحافظة على الموارد العظيمة لهذا القطاع الهام، التي سخرها مولانا صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- وأولاها من لدنه اهتماماً بالغاً، لنرى منظومةً وجيلاً من الرياضيين نفخر بهم.