الانتقال من التعمين إلى التمكين(3-5)

 

ناجي البلوشي

إنَّ رؤيتنا للمستقبل مما بحثناه في المقالين السابقين تضعنا في مسؤولية الاستبدال والتغيير إن تطلب الأمر ذلك، فما نسترغبه هنا هو استبدال منظومة التعمين وما صاحبها من أفكار مساعدة لنجاحها كالاشتراطات على أصحاب الأعمال والمستثمرين وما بها من ثقافة تضع العماني باحثًا عن العمل في بلاده وسياسات توقيف استيراد الخبرات أو غيرها من رؤية يعمل بها اليوم على نطاق واسع كنظام تأسيس الشركات الصغيرة وآلية الدعم فيها وما يصاحبها من المعمول به من رؤى مصاحبة لتلك المنظومة، ودراسة ما ستوصلنا إليه تلك الرؤى على المدى البعيد .

فرؤيتنا لها صراحة أنها منظومة لا يمكن لنا أن نطبقها اليوم على الواقع إن كنا نريد أن نصل إلى المستقبل بأوسع أبوابه، فواقع مخرجات الباحثين عن العمل التي أكثرها من فئة حملة الشهادات الجامعية يعني صراحة لابد من وجود قطاع خاص قوي قابل لهذه المخرجات أي بمعنى صريح أنَّه لابد من وجود شركات عملاقة أو كبيرة قادرة على تدريب أو تاهيل أو دفع رواتب أولئك الخريجين، من جانب آخر هناك مؤشر يدل على تفاقم إشكالية جذب الاستثمار إلى بلادنا حتى يمكننا أن نطلق عليه تحديا جديا واضح الملامح بعد أن تم تسجيلها في التصنيفات الائتمانية الضعيفة ذات النظرة المستقبلية المستقرة، مثل هذه الأسباب لا تضع لنا خيارا سوى العيش في المرحلة وما تتطلبه من واقع حتمي نقدم فيه الحلول الواقعية، لذا -علينا التفكير في الحل لا في المشكلة ذاتها - المعنونة ظاهريا بقلة فرص العمل في القطاع الخاص وهي ليست كذلك بل هي ليست المشكلة الحقيقية على الإطلاق وسنبرهن ذلك فيما يلي .

إن تزايد أعداد الباحثين عن العمل لا يشكل أي مشكلة بمعناها الحقيقي المطلق عليه لفظاً بالمشكلة لأن حلها يقابله زيادة في فرص العمل عندها تنتهي المشكلة أو نحكم عليها فعلاً أنه لم تعد هناك أي مشكلة، وهذا ما يحصل فعلا عندما توفر شركات القطاع الخاص فرصاً كثيرة للعمل لكن هذه الفرص لا يشغلها العمانيون ويشغلها الوافدون هذا يعني وجود سبب آخر غير فرص العمل وتوفرها، يكمن أن يكون هذا السبب في أن هذه الفرص المتوفرة غير مقبولة من العُمانيين لأسباب المتعددة ومنها كيان الشركة وموقعها وقوتها واسمها وإدارتها وميزاتها أو مسمى الوظيفة وعلاواتها والحوافز ... إلخ من أسباب . هذه الأسباب في هذه المرحلة من التشكل الإنساني الحضاري تكون سببا حقيقيا في عدم رغبة الباحث عن عمل في تلك الفرصة التي تلاقي استحساناً من الوافدين وهم يعيشون المرحلة الحضارية التي عاشها العُماني قبل النهضة المُباركة، فتطلبهم الشركات لسد حاجاتها منهم كما يطلبهم الأفراد لسد خدماتهم التي يحتاجونها منهم، يعني ذلك أن هناك فرصاً للعمل لكن لا تتواجد بالمقابل رغبة إنسانية محلية لها، ولتكتمل الحلقة التي توصلنا إلى المشكلة الحقيقية فإنَّ هذا الرفض من الباحث عن العمل يُقابله عدم رغبة حقيقية من صاحب العمل في منح تلك الفرصة للعُماني لما يقيسه عليه من ضعف إمكانياته وضعف السيولة لديه في التدريب والتأهيل أو الاستفادة من النظم الحديثة في بيئة العمل أو تطبيق بنود القوانين بالإضافة إلى الأسباب الربحية من وراء تلك الوظيفة كارتفاع القيمة التشغيلية وقلة المهارة المعرفية أو عدم الخبرة أو قصر ساعات العمل والإنتاجية ليقارنها مع التنافسية التجارية من الأسواق المجاورة ووصول منتجاتها وخدماتها وأفرادها إلى أرض السلطنة هذه الأسباب التي يرى فيها كلفة عليه في تشغيل ذلك العامل يقابلها عدم الجدية من الباحث عن العمل في شغل تلك الوظيفة .

هنا اختصرنا أسباب المشكلة الحقيقية الموجودة في سوق العمل ومنها يمكن لنا الاستنتاج بأن المشكلة الحقيقة هي "عدم الرغبة "من الطرفين العارض لفرص العمل ومن يعرض عليه تلك الفرص، فالعماني يريد أن يحصل على ما يرغب فيه من فرص عمل تكون أرقى مما حكم عليه عندما عرضت عليه تلك الفرصة فتراه ينتظر فرصاً أفضل مستقبلية، فمثلا تعرض شركات المقاولات العمانية عشرات الآلاف من المهن في ذلك القطاع فلا يقبلها إلا القليل من العمانيين المتساوين في المهارات وشهادات التخرج مع الآخرين من الجنسيات الأخرى، لهذا نقول صراحة بأن الوظائف الحكومية أكثر قناعة له من وظائف القطاع الخاص كما أنه راغب في الشركات الحكومية أكثر من الشركات المملوكة للأفراد ولديه الرغبة في شركات لها وزنها في السوق أكثر من شركات ليس لها اسم في السوق ومثل هذه العناوين تسير أكثر الخيارات لديه في مسميات المهن وشواغر الوظائف، وهو حق مشروع له فهو يُفكر في مستقبله المهني والاجتماعي إضافة إلى ذلك أنه مواطن له في الأرض حق الأفضلية، لكن الوقت لا يساعده على كل هذه الخيارات ليخوضها فيسقط في الواقع ويعيش الحقيقة لتأتي عليه أقرب الفرص شغورا وهي أسرعها هرباً له من تلك المكانة والشركة وبها يتشكل الدوران الوظيفي الموجود حاليًا فيعود إلى قائمة الباحثين عن العمل، صاحب العمل ليس بأحسن حالاً من الباحث عن العمل فطريقه يبدأ من نهاية مطاف الباحث عن العمل وخياراته لا تكثر عن خيارات المرشحين للتعمين فهي محدودة وملزمة وقاطعة فإما التعمين وإما العقوبات وهو ما يجعله يسير بنفس منهج الباحث عن عمل كالتسجيل له والتوقيع معه حتى تأتي عليه أقرب الفرص ليتخلص من ذلك العامل ويتكون معه الشاغر الجديد للوظيفة الجديدة للعام الجديد في الخطة الجديدة .