الشرق الأوسط.. ألف مقال ومقال (2)

 

 

د. مجدي العفيفي

 

(7)

متى يفيق التائهون في شرقنا العربي بحثًا عن زعامات رخيصة في زمن تعز في الزعامات، أو بالأحرى في زمن لا يحتاج زعامات فردية، ولا يجوز، ولا ينبغي، ولا يستطيعون؟ إنَّ للزعامة أصولًا لا يعلمها ولا يدركها "بتوع اليومين دول" أو "محدثي النعمة السلطوية" إنْ صح التعبير، هؤلاء الذين يغمضون أعينهم ويتعامون ويتجاهلون وينساقون وراء بريق المال وشهوة الحكم وسوط السلطة، وهم لا يبصرون؛ فشهوة السلطة أيضا "تعمي القلوب التي في الصدور"، وتمنح الفرص الذهبية للغرب الدموي أن يجوس في ديار الشرق، ويعيث فيها فسادا وإفسادا، تحت أقنعة التحضر والحضارة والتنوير والمدنية الحديثة.. وتحت أوهام حماية العروش وكراسي الحكم.. و.. و.. غيرها من الأقنعة التي ساعة أن تسَّـاقط تبدو وجوه أصحابها مثيرة لللغثيان السياسي والحضاري والثافافي وبكل أنواعه ونوعياته... فهل من مدكر؟.

 

(8)

ليس من قبيل المُصادفة أن تتزامن هذه السلسلة من المقالات مع حراك وطني قومي حضاري في دول المغرب العربي الثلاث؛ في سياق البحث المتجدِّد عن الذات، وتأصيل وجودها بوسائل عرفية ومعرفية وأخلاقية وجمالية حديثة، وتثبيت حضورها المتواصل مع حضارتها، ويطالب الذين احتلوه سنينا طويلة ومريرة بالاعتذار والمزيد من الاعتذار.

أقول قولي هذا مع التحفظ اللامحدود على التقسيم الخرافي الذي زعمه حكام الغرب الأوروبي أمدا طويلا، هذا شرق أوسط، وذاك شرق أدنى، وهذا شرق أقصى.. و.. و... غير ذلك من الهرطقات التي سوقها ذلك الغرب الحاقد على الشرق، خاصة الشرق العربي، والمشحون بالكراهية والمسكون بالانتقام، وهي تقسيمات زعمها المنظرون للسياسات الغربية، وتحديدا البريطانية والفرنسية والإيطالية، وآوسه دوائها المستشرقون المغرضون وقطيع الدارسين للشرق العربي، وهم مجرد قطيع لساساتهم الذين مارسوا البلطجة السياسية، ولا يزالون، وسيظلون.

وأذكِّر بما أشرت اليه آنفا عندما كتبت "إنهم يقولون لا إله إلا الدولار" إذ تساءلت، وسؤالي كان ولا يزال استنكاريا: "أين الإمبراطوريات الغربية التي تعاقبت على البشرية؟ أين إمبراطورية القرن الثامن عشر (الفرنسية)؟ وأين إمبراطورية القرن التاسع عشر (البريطانية التي غابت عنها الشمس وغابت هي ايضا)، ومضى القرن العشرون وقد اختفت منه الإمبراطورية السوفييتية ما بين غمضة عين وانتباهتها! وبقيت الأمريكية والتي يقول الباحثون والمحللون الأمريكيون أنفسهم أنها هي التي كانت مرشحة للانهيار.. وهي الآن مُهيَّأة للانهيار.. و.. و.. البقية تأتي.

 

(9)

من الدلالات القوية لهذه الروح المغاربية، أن الحقد في أعماق الغرب الأوروبي والأمريكي أيضا لا يزال مستعرا ومستمرا تجاه شرقنا العربي.. طمع متنمر للانقضاض.. تربص متجدد لنهب للثروات.. حقد حضاري.. مآرب خبيثة خبيئة مخبوءة خلف المظاهر الكاذبة التي يتسترون ويستترون بها من قبيل: تحقيق السلام العالمي.. محاربة الإرهاب في هذه المنطقة من العالم.. العلاقات الثنائية المتميزة بين كل بلدين.. التوافق في الرؤية والمواقف.. وتقارب وجهات النظر... وغير ذلك من التعبيرات الخالية من المضامين، شأنها شأن الابتسامات الدبلوماسية الصفراء المرتسمة ببرود على وجوه أصحابها، وهي تعبيرات مسكوكة بينها وبين تصديقات الواقع.. لا تسمن ولا تغنى من جوع سياسي.

 

(10)

برهانٌ جديدٌ على ما نقول؛ إذ ذكرت صحيفة الجورنال الإيطالية، منذ أيام، أن وزيرة الدفاع الإيطالية الدونا إليزابيتا ترينتا وجهت تحذيرا للحكومة الفرنسية فيما يخص تدخلها في الشأن الليبي وقالت بالحرف الواحد: "إن إيطاليا هي الدولة القادرة على قيادة الدولة الليبية، مؤكدة أن القيادة بيد إيطاليا فيما يتعلق بالحالة الليبية". وطبقا لرؤية بوابة إفريقيا الإخبارية (روما تحن إلى الشاطئ الرابع) بات واضحا أن روما لا تزال تحنّ إلى مستعمرتها القديمة ليبيا، ورغم أن إيطاليا اعتذرت رسميا للشعب الليبي عن فترة الاحتلال، إلا أنها وجدت الفرصة ملائمة لتنقلب عن ذلك الموقف التاريخي... تم استضعاف البلاد واستغلال واقعها المأساوي لفائدة القوى الأجنبية، ومنها إيطاليا التي يبدو أنها عادت لتحن إلى حقبة الاستعمار الاستيطاني، وهي التي لا يزال جزء مهم من أبنائها يتحدثون عن زمن سيطرتهم على ثروات ليبيا وخيراتها وموقعها الجغرافي المؤثر وساحلها الجميل وأراضيها الخصبة، عندما كانت ليبيا تعتبر الشاطئ الرابع لإيطاليا (بالإيطالية(La Quarta Sponda ، وهو مصطلح أطلقه موسوليني على الشاطئ الليبي، وقد اشتق المصطلح بسبب وجود ثلاث شواطئ في شبه جزيرة إيطاليا: الأدرياتيكي والتيراني والأيوني واعتبرت ليبيا الرابعة.

سنعود في سطور قادمة إلى هذه الفجاجة السياسية المكشوفة، لعل أحفاد الزعيم الليبي العظيم عمر المختار وكل الأجيال الجديدة في شرقنا العربي... يستفيقون.. لعلهم يفيقون.

 

(11)

وهذه صورة دامية درامية تعرضها ذاكرة التاريخ الحديثة؛ التاريخ الحقيقي الذي ليس هو أكبر جهاز لتكييف "الهوى"، حيث كانت جيوش إيطاليا تمخر عباب البحر المتوسط لاحتلال أراضي ليبيا أو طرابلس الغرب كما كانت تعرف يومها سنة 1911م وهي ترفع نشيداً فاشستياً مجرما يندد بالقرآن ويهزأ بالإسلام ويتوعد أمته بالسحق والفناء جاء فيه :

يا أماه أتمي صلاتك ولا تبكي..

بل اضحكي وتأملي..

ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني..

وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً

لأبذل دمي بسحق الأمة الملعونة..

ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للحاكم

سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن..

سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن..

سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن..

وإذا كانت إيطاليا قد اعتذرت عن دورها في المآسي التي ألمَّت بالشعب العربي المسلم في ليبيا، وإذا كانت ليبيا قد قبلت هذا الاعتذار، وإذا كان هذا الاعتذار قد تم في إطار صفقات أبرمت، أو اتفاقات عقدت بين البلدين، فبعيدا عن كل هذا يجب على الشعب الليبي ألا ينسى الدور الصهيوني الخبيث في هذه المأساة، ويجب علينا ألا نَكل ولا نَمل من تذكير أجيالنا -جيلاً تلو جيل- بالمآسي التي لحقت بشعوبنا العربية والإسلامية جراء أفعال هؤلاء عبر التاريخ، لتظل ذاكرة الأجيال العربية والإسلامية متوقدة ضد أفاعيل هؤلاء«طبقا لمنظور طارق حسن السقا برمبال القديمة 25/9/ 2008.

 

(12)

"الاستعمار" أقبح كلمة في التاريخ؛ فكيف تم سك هذا المصطلح؟ وكيف صار من المسلمات؟ وكيف انطلى علينا كل هذه العقود والقرون؟ وكيف تم اغتصاب دول وحكومات وشعوب وحضارات ومصائر باسم هذه الكلمة القاتلة؟ ألف كيف.. وألف لماذا؟

وإلى لقاء قادم إن شاء الله.