الوجه الآخر لـ"كورونا"

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

رغم مرور أكثر من نصف عام على تمرُّد هذا الفيروس وفتكه بملايين البشر من مختلف بقاع الدنيا، فلا يزال هو الحدث الأبرز في العالم اليوم؛ حيث أصبح يتحكم في مصائر الشعوب بعد إرادة الله طبعاً، ولن أُسهب في ذكر الآثار الاقتصادية والسياسية التي تناولتها كل وسائل الإعلام بمختلف قنواتها طوال الفترة الماضية، حتى أصبح لدينا رؤية فائضة عن الحد في تك المجالات.

إنَّ الرؤية النفسية للفيروس لا تزال يكتنفها الكثير من الغموض؛ فقد تغير سلوك البشر بناءً على المعطيات، فأصبح معظم سكان الأرض يلُوذون ببيوتهم خوفا من الفناء بهذا الفيروس العنيد، ونتج عن ذلك الكثير من الكبت والشعور بالوحدة والملل؛ كون الإنسان اجتماعيًّا بطبعه - كما قال عالم الاجتماع المشهور ابن خلدون في مقدمته؛ فكيف له أن يتخلى عن اجتماعيته التي هي رمز حياته؟

مهما بلغ الإنسان من مال أو منصب أو جاه، فلا يستطيع العيش بمفرده أو ضمن مجموعة محدودة جدًّا كعائلته بعيدا عن بني الإنسان؛ فكلمة إنسان مشتقة من الأنس واستأنس، وبدون هذا الأُنس تصبح الحياة مستحيلة في غالب الأحيان؛ فكيف لنا أنْ نتنازل عن نمط حياه عشناه طوال أعمارنا، وصار هو أيقونة وجودنا، فإن لم تربطنا علاقات وطيدة ببائع الخضار أو صاحب البقالة أو حتى الخياط أو غيرهم، فإننا نتعايش وفق المصالح المشتركة، وتربطنا ابتسامات وإيحاءات بالرضا أو السخط تشكل جميعها رمزية إنسانيتنا؛ فقد يسكن الواحد منا وحيدا في إحدى الشقق بإحدى البنايات الشاهقة، لكنه يتنفس من خلال نظرته عبر النافذة لزحمة الشارع وهدير السيارات وصيحات الباعة وأصوات الرافعات التي تقوم ببناء المزيد من المساكن الآدمية، كلها تشكل صورة يستمتع بها هذا الإنسان المُحب لبني جلدته، رغم أنه لا يرتبط معهم سوى برباط الإنسانية، والمشهد يتكرر حتى عندما نُسافر خارج أوطاننا؛ فلا تهمنا بشرة ذلك الإنسان أو حتى لغته، بقدر ما تُمتِعنا سلوكياته وحركاته التي لا تهدأ باحثة عن الحياة والأمل بغدٍ أفضل.

كم افتقدنا الذِّهاب للمساجد التي كانت تُطهِّر ذواتنا؛ فبعد يوم حافل بالتفاعل الإنساني نُحاسب أنفسنا، فنجر أقدامنا لمسجد الحي لنقابل ذلك العجوز الذي يدعو للجميع، وذلك الشاب الذي كُتِبت له الهداية، وغيرهم الكثير ينضمون جميعا ويصطفون أمام رب العالمين، خاضعين لجلاله وهيبته، طالبين مغفرته مما اقترفوا؛ فتجد الواحد وهو خارج يتنفَّس الصُّعداء، وتتهلل أساريره مرة أخرى؛ فيأتي بوجه مشرق وضَّاء لعائلته، حاملا معه أكياسَ العشاء، وشيئًا من متاع الدنيا؛ فيسكنون عندما يهجع الليل، ويقومون مع الخيط الأول من الفجر، يلتمُّون حول بعضهم، مستبشرين بنهار جديد. أما اليوم، فقد طال غلق دور العبادة، وجفَّت النفوس، وتغيَّر الليل إلى نهار، وانعكس النَّهار فصار ليلًا، وصار هناك صراعٌ جديد أوجده "كورونا"، وترتبتْ عليه مواجهات ومشكلات نفسية مستجدة، المجتمع غير مستعد للتعامل معها؛ مما ينذر بتشظِّي العلاقات الأسرية ودخول الإنسان في عالم جديد من الوحدة، ليس له مكان إلا للهاتف والشبكة، والمطبخ ودورة المياه.

قصَّ عليَّ بعض الزملاء والأصدقاء تجارب مُرَّة من داخل مدن الحجر، وكيف يواجهون سُلطان العزلة؛ فحسب إفادات البعض أنهم صمدوا قرابة الشهرين في قبول بعضهم البعض وعالمهم الجديد والانخراط في أنشطة جديدة، لكنَّ فضاء المسكن كان ضيِّقا بعد تلك الفترة، فانحدرت العلاقات وأصبحت الوحدة والوجوم والشعور بالضيق هي الصفات الطاغية، ويَحْكِي بعضهم عن تنمُّر الأبناء وتمردُّهم على الاحترازات الصحية وقلة حيلة الآباء على كبح جموحهم الفطري.

حريٌّ بنا اليوم أن نهتم بالجانب النفسي للمجتمع القابع تحت طائلة هذا الجائحة، وأن نجد بدائل غير التهديد والوعيد بالموت؛ فالكثيرون باتوا لا يأبهون به في سبيل استعادة إنسانيتهم وفضائهم البشري، ومما لا شك فيه أنَّنا لا نُؤيد هذا الجنوح الخطير، لكننا نلفت انتباه المعنيين لوضعه في الاعتبار، وأن يتم حسابه ضمن الخسائر البشرية للمرض؛ فليس الأمر مجرد مستشفى وسرير عناية وفحص مخبري يثبت أو ينفي عنك المرض.