أبي.. الكون الصغير

جيهان رافع

الأبُ كونٌ صغير في المنزل، هو شمسٌ في عزّ برد الأبناء وأمانٌ عند قمّة الشعور بالخوف، هو كالساري الذي يشكّل توازن السفينة وإن الحياة كالسفينة التي لا تسير إلّا بربّانها وإن فُقد تُلاطمها أمواج الضياع والحاجة والعوز وإن أدارها من دون بوصلتيّ العقل والقلب في آن أيضًا تملّك جسدها- الأبناء والأم- الضياع والغرق في قاع ظلام القسوة والتَّحطم الأخلاقي والإنساني.

الابن يضحك في صغره عندما يأخذ ما يحتاج من والده والأب يبكي في كبره عندما يأخذ ما يحتاج من ابنه، وإن كانت الأم مدرسة، فالأب هو اللغة والكتاب، فلا أجمل من عبارة يقولها الأب في مدح ابنه فتلك العبارة ستكون عبارة عن شهادة جامعيّة تعوض له تعب السنين وكم من ابنٍ عانق سماء النجاح بتشجيع والده وكم من ابن مزّقت عبارات القسوة أحلامه وسار في دروبه تائهًا لا يُفرّق بين الحقّ والظلم ولا يرى إلا الفشل في انتظاره.

وهذا يُذكرنا بقول سبط ابن التعويذي: "إذا كان ربّ البيت في الدفّ ضاربًا.. فشيمة أهل البيت الرّقص والطرب" بغض النظر عن نيّة الشاعر حينها وهل هي سخرية من الموسيقى في وقتٍ كانت تُعتبر حرامًا أو عملا معيبا، لكن اتُخذ من هذا البيت حكمة للتعبير عن قوّة دور ربّ البيت في اتجاه الأسرة بشكل عام.

ومن جهة مُقابلة، نتذكر من شعر نزار قباني حين فقد والده: (أماتَ أبوكَ؟... ظلالٌ أنا لا يموت أبي... ففي البيت منه... روائح ربٍّ ... وذكرى نبي.. بقاياه في الحجرات الفِساحِ.. بقايا النسور على الملعب... أشدّ يديه... أميل عليه... أصلّي على صدره المتعبِ).

كان أبي... كلمتان إمّا يقولهما الفرد وهو مرفوع الرأس، وإمّا يتفادى قولهما كي يواري خيبة ما أصابه حين انطبق عليه مثل: "شوكة أنجبت وردة" ولكن وفي نسبة كبيرة من المئة نجد من يُفاخر إلى حد اللانهاية بأبيه كمن يفاخر بوطنه.

كان أبي لا يقرأ الكتب ولم ينل شهادة تعليمية -حتى الابتدائية- لكنه كان يُعلمنا كيف نتعلم من الحياة حب الكتابة والقراءة كيف نخالط أهل العلم لنعلم ما قيمته، كيف نبحث في تجاربنا عمّا يُقوينا، وكيف نتفادى ما يكسرنا، كيف ندخل دور العبادة ونصلّي ونحن ممتلئون بحب الله ومؤمنون بأنفسنا، كيف ندخل ونحن نمتلك القدرة على العطاء لنأخذ بامتنان.

علّمنا أنَّ الحبّ مفتاح لكل الأبواب ومفتاح السماء هو النقاء، كان يقول لي دائمًا: لا تستعجل الحصاد فالسنابل إن لم تمتلئ بالصبر ستموت من الفراغ وتتعفن في ظلام التسرّع.

ازرع في قلوب النَّاس بذور المحبة والعطاء ولابد لكِ من حصاد وفير حتى ولو بعد حين، فكل شيء على هذه الأرض يُقاس بوزنه وحجمه صغر أم كبر، لكن عمل الخير يقاس عند الله بالذرّة فما بالك يا ولدي إن فعلت خيرًا من دون انتظار المُقابل من العبد؟

نعمة الأبوّة لا يقدرها سوى من فقدها، وكان على الرغم من الحرمان أب لكل طفل يتيم أو صاحب القلب الأب لكل من بحاجته.

سلام لأرواحهم في السماء وسلام للأحياء من الآباء.

 

 

** بمناسبة اليوم العالمي للأب.