من المقود إلى الكرسي

جيهان رافع

لطالما صنعنا من الذاكرة والعودة إلى الزمن الجميل مَلجأً ندخُله آمنين من رَصَاص القرارات والعناد، وصوت الخوف من المستقبل يرزح في كل ما نتناوله من وجبات الأخبار والتوقعات، نتلظَّى بفِيء نخلة كانت تحنو علينا أكثر من قصورنا، أو نطرب حين نسمع صمت حب في قلب اشتاق لنبضه.

في القصة وصوتها نسمع عِنَاد المقود وصُراخ الكرسي منه، كل المفارقات باتت لا تعنيه؛ فلا فرق بين ليل ونهار، ولا ضوء وظلام يهزّ ثبات كرسيه، جلس جانب النافذة الكبيرة وراح يستنهض همَّة النظر إلى الطريق؛ فالضجر الذي امتاز باتساع مساحته على رقعة الحياة، صار مثل دقات الساعة يُشعره بنفاذ كمية الصبر، تلك الذكريات العالقة خلف مقود سيارته تعصف بنوافذ فكره؛ تجعل العالم مثل كرة من قماش كان يلعب بها مع أصدقائه منذ نُعومة الدنيا، وبهجة العيد الحقيقية غير المزيفة، والتي كانت تكتسي ثياب الفرح بسداد فواتير الذنوب، وقدوم قهوة الصباح وفيروزيات اللهفة، لكنها تترك بصمة صوت المسحراتي في كل ذاكرة، وتترك آثار المغفرة الجميلة في كل كيان هي أيضًا باتت مقرونة بكلمتي "لو وليت" لكن ما الفائدة؟ وكل الكلمات تُصبح كحبرٍ تحت المطر كالصراعات التي تحتل الضمائر والعالم كالهوَّة السحيقة بين ماضٍ يقف على قدمين وبين حاضر يحتضر على كرسي.

صَوْت الجدة الخفيض المرتجف، ونتذكر كم كان يزنُّ على آذان أبنائها، والآن كم هو مليء بالحنان والأمان والجمال، وكم كنا حينها ننظر إليهم بازدراء، ونمتعض من أوامرهم، ونقلل من أهمية خوفهم علينا ومن توجيهاتهم لنا.

"ليتني سمعتك ونفذّت يا جدتي"... ماذا لو كان وريثي سيرث تهوري فقط، فماذا أقول له؟ وماذا سيقول لنفسه عني؟ هل سيقول كان حادثًا عاديًّا؟ أم أنه سيتذكر أنه كان في عُمر السادسة حين خرجت مع أصدقائي لنستعرض عضلات الشجاعة وقلة الخوف، ونحن أساسًا لم نكن نعلم أن ذلك حقيقي فينا أم أننا نستعرضه كي نخفي خوفنا من القادم، أو انهزامنا أمام الحياة، أو نُخفي صمتًا كاد يقتل فينا الكلام، بماذا كنت أفكر حين وافقت على اقتراح صديقي صاحب السيارة الزرقاء، أننا سنُقيم حفلة لسياراتنا الجديدة، فنملأ الشوارع بضجيج محركاتها وكأننا أردنا أن نُعْلِم العالم كله بشرائنا لموديل جديد عند وصوله، كي نستعرض كمية نقود آبائنا، ونُهمل كمية عقولنا، نعم لقد كان كلٌّ منا نحن الثلاثة قد اشترى سيارته من خزنة والده لا من تعبه وكده، لا من سهره ونضاله بوجه صعوبات الحياة.

كُنت أعلم جيدًا أن من بين هذه البيوت التي كنا الأقرب إليها أثناء مغامراتنا كان يوجد أكثر من ألم وأكثر من حاجة للعيد، اختصرها رب المنزل على أبنائه لأنه لم يستطع إكمال المبلغ الذي يفي كل الحاجيات للعيد وللأبناء. أما نحن، فاخترنا أن نحتفل بالعيد على طريقتنا، وتناسينا أن أولئك سيتألمون وسيسخطون وسيصيبنا دعاء من أحدهم، وهذا ما حصل بالفعل قبل عيد الفطر بيومين منذ عامين.

وأنا على هذا الكُرسي المتحرك، أرفض العيد، وأرفض النظر إلى الشارع، واليوم اخترت أن أنظر إلى الشوارع الفارغة لأسأل نفسي: هل الجَالسُون في مَنازلهم في الحجر يشعرون بحجري الإرادي على هذا الكرسي؟ هل سيستمعون إلى نصائح أهلهم ولا يتورطون بما رميت نفسي به؟ هل يسمعون صمتي ولوعة اشتياقي للشعور بالألم في قدمي عندما كنت أصعد سيارتي أو أتعثر، فيضرب أصبعها الصغير بشيء حتى أكاد أرى النجوم في عزِّ الظهر. نعم اشتقتُ لأعود إلى الوراء، وأستمع لنصيحة أبي عندما قال لي قبل أن أخرج يومها: كُن حريصًا على نفسك، وعلى غيرك من سرعتك، ولا تُبالغ بثقتك في مقود سيارتك.

إن كنا من حزب الطيش والعناد، فكيف سنعلم أبناءنا احترام نصائحنا؟!