لا تضعوا العصي في دواليب التغيير القادم

 

زهران بن زاهر الصارمي

 

لماذا يعمل بعض مُثقفينا على تكسير المجاديف ووضع العصي في دواليب التغيير الذي يقوده حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه-؟

غريب وعجيب أمر بعض مُثقفينا في هذا البلد، فهم رمز للتذبذب وتقلب الرأي وانتهازية الفكر، فإذا الريح مالت مالوا معها حيث تميل.. كنَّا قبل بضع سنين نشكو من ترهل الدولة، ونتذمر من طغيان البيروقراطية فيها والعمل الروتيني المعرقل للإنجاز؛ ونَقْص، إن لم يكن، غياب الإنتاجية والفاعلية؛ ونأسى، إن لم نكن نغضب، من استشراء الفساد والمحسوبية في أوساطها؛ وبقيت حال أوضاع بلادنا في عمومها، كما هي تراوح في مكانها، بلا تقدم أو تطور يُذكر، تعيش حالة من السبات الشتوي خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة من عُمر النهضة. وكان المثقفون متفقين على "ضرورة التغيير" بتحريك مفاصل الدولة التي اعتراها الوهن وتعداها الزمن، وأصيبت أعضاؤها بالتكلس والتيبس، إلى حد أن كادت تصاب بالشلل. ولكن ما كادت تلوح في الأفق الرغبة السامية في إحداث التغيير المُنتظر لمواكبة العصر، واتخاذه بعض الخطوات العملية في هذا المسار، بمراسيم سلطانية متعلقة بإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وما يترتب عليها بالضرورة من تقويم وتشذيب لموظفيها الذين أمضوا في وظائفهم 30 عامًا وأكثر؛ أقول ما إن لاح ذلك التصميم المفرح على إحداث التغيير، حتى انقلب بعض مُثقفينا بزاوية 180 درجة، فشمروا عن سواعدهم، وشحذوا أقلامهم لمُقاومة هذا التوجه، بشتى الفذلكات اللغوية والحجج الواهية، في محاولة لتكسير مجاديفه ووضع العصي الغليظة في دواليبه!

وهو حال يُذكرني بالحال الذي كتبت فيه مقالي القديم- الجديد "الربيع العربي بين مطرقة الأعداء وسندان المُثقفين" المنشور في كتابي "أوار اللهب"؛ حيث كان المثقفون العرب من المحيط إلى الخليج ينادون في كل محفل إعلامي بضرورة "انتفاض الجماهير العربية" في وجه الأنظمة الظالمة المُترهلة، ويعيبون عليها، أي على الجماهير جبنها واستكانتها واستسلامها للهوان الذي تعيش فيه؛ ولكن ما إن تحركت الشعوب في ربيعها العربي الشهير، حتى انقلب الكُتاب الوصوليون منهم والانتهازيون، فسُّموه بلا خجل "الربيع الإسرائيلي" وخونوا الشعوب الثائرة على خروجها للشارع وهتافاتها المزمجرة بسقوط الأنظمة.

وعليه؛ فمن رفع شعار "التغيير" بالأمس، وارتدَّ عنه اليوم، هو واحد من اثنين لا ثالث لهما، فهو إما أنه جاهل لا يُدرك حقاً معنى التغيير ومتطلباته، وغلطة الجاهل يغفرها ويسترها الجهل؛ وإما أنه استشعر الخطر على مصالحه الشخصية الأنانية من التغيير القادم، فقرَّر عن سابق قصد وإصرار مقاومة هذا التغيير، رافعاً شعار "أنا ومن بعدي الطوفان". فلا يرى من يستطيع إدارة الكرسي الذي يجلس عليه غيره، ولا يعترف بحق أحد في نزعه منه مهما كانت الظروف إلا الموت، وكأنه ملك خاص به ليس من حق أحد منازعته عليه.

وبادئ ذي بدء؛ ليس هناك من يبخس قدر الرعيل الأوَّل الذي قامت على أكتافه الدولة الحديثة في عمان، بل ونثمن جهودهم في بنائها، ونُقدر عالياً المهام التي اضطلعوا بها وأدوها في خدمة هذا البلد ومواطنيه... ولكن هذا الاعتراف والعرفان لا يعطيهم الحق بأية صورة من الصور في الاحتفاظ بالكراسي والوظائف التي شغلوها أو أن يقفوا حجر عثرة في طريق تجديد دماء الدولة وتطوير رؤاها وآليات العمل فيها. ولم يكن من الحكمة بقاؤهم في وظائفهم، والدولة تسعى للتغيير والتطوير وذلك للأسباب التالية:

1- أن كل إنسان في هذه الحياة له مرحلة يمتاز فيها بالإنتاج والإبداع في الوظيفة التي يشغلها، لا تتعدى في أفضل الأحوال عقد أو عقدين من الزمان بالكثير، بعدها لن يكون لدى هذا الإنسان- الموظف أي شيء جديد يُضيفه لعمله سوى تكرار مهامه المعتادة وممارسة العمل الروتيني المعهود، عندها تدخل الوظيفة مرحلة التلبد والتبلد، وفي ذلك مؤشر خطير على ضرورة تغيير القائم على تلك الوظيفة، وإلا يكون مصيرها الانهيار والاضمحلال، أو أن يغدو وجودها من عدمها سيان، واستمرارها حينها بتلك الحال هو عين ما يُسمى بالفساد الوظيفي (وهذا ما أدركته الدول الديمقراطية المُتقدمة، فشرعت دساتيرها الفترة الرئاسية لأي رئيس ينتخب بثمان سنوات فقط لا أكثر) فأي جديد وأي إنتاج بوسع المرء أن يقدمه في وظيفة قضى بها ثلاثين سنة؟ والمفترض أن تكون الدولة هي الدينمو المحرك لعمليات الإنتاج والخلق والإبداع بأيِّ بلد تكون فيه، لتحقيق المزيد من التقدم والرخاء؛ لا أن يقتصر دورها على رعاية المسنين وتوفير لقمة العيش للمحتاجين، وإنما هي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن كل الأجيال، الماضية والحاضرة والقادمة، بل وإن دورها ومسؤولياتها عن تلك الأجيال تكبر وتتعاظم تصاعدياً من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. فمن الظلم والأنانية بمكان ألا تفكر أجيال الحاضر إلا في ذاتها، وتنسى نصيب الأجيال التالية، وخاصة في ظل شح ومحدودية الوظائف الحكومية.

2- إنَّ نصف القرن الذي مضى من عمر النهضة كانت له إيجابياته ومآثره التي لا ينكرها كل منصف وبصير. ولكن كانت له، في المقابل، سلبياته التي طفت على السطح، في السنوات الأخيرة، وشكلت على المدى، لدى الشعب، أمنية تغييرها لتطوير البلد والدفع به إلى آفاق أرحب؛ وتلك السلبيات أوجدتها، في نهاية التحليل، أفكار وممارسات المتربعين في المناصب والوظائف، على اختلاف درجاتهم، منذ عقود، بحسن نية بعضهم، وبعضهم بسوء نية؛ وأينشتاين يقول: "لا يمكن لنا أن نحل معضلة أو مشكلة بنفس العقليات التي أوجدتها"، فكانت أول خطوة ضرورية في طريق التغيير، هي إزاحة تلك العناصر القديمة التي تسببت في ذلك الترهل، وأفرزت تلك المشكلات التي تعاني منها البلاد، وأعاقت تنميتها وانطلاقتها المأمولة؛ واستبدالها تلك العناصر بعناصر شابة جديدة من أبناء الوطن، المنتمين بأفكارهم وعلمهم ومعارفهم إلى الزمن المعاصر الذي نعيش فيه، عصر الجيل الخامس وإنترنت الأشياء، وهم بلا شك أكثر قدرة وأكثر تأهيلاً للتعامل مع تلك التقنيات المُتقدمة المعقود عليها تطور وتقدم البلدان.

3- من يعتقد أن طريق "التغيير" سالك ويسير، فهو واهِمٌ ضحل الفهم والتفكير، وإنما طريق التغيير وعرٌ شائكٌ ومحفوفٌ بالمخاطر، فمن سعى لتحطيم الأصنام يوماً، حُرِق، ومن عاب على عُزّى وهُبَل، لاقى الأمرّين من عُبّادها وصل حد الطرد من دياره ومحاولة القتل؛ فهناك الكثيرون من المعتاشين على تلك الأساطير السائدة، المتخذين منها حصان طروادة للوصول إلى مآربهم الشخصية؛ وللوظيفة المتنفذة في البلدان العربية بشكل أخص، وهجها وسحرها ومكانتها المجتمعية المهابة، تجعل من يتسنمها صاحب قوة وسلطة وسطوة، فيستطيب البقاء فيها والاحتفاظ بها من جبلوا على حب الظهور والجاه والمنصب؛ بالإضافة إلى من اتخذ وظيفته وسيلة كسب ونهب من أصحاب النفوس الضعيفة، فلا غرابة أن يتذمر مثل هؤلاء على نزعه من مملكته، وانتزاع الأوزة التي تبيض ذهباً من حضنه.

4- التجارب اليومية للحياة الإنسانية تخبرنا بأن التغيير أو التجديد، في أي شيء كان، أمره، بطبيعته، مرهقٌ ومتعب. ومن منِّا، مثلاً، لم يعش العناء والمشقة ومكابدة الأتعاب ومنغصات الراحة والاستقرار حين قرر، بحكم متغيرات الظروف الذاتية والموضوعية، تغيير أو تجديد وتحسين المنزل الذي يعيش فيه؛ ولكن كان الصبر على المُعاناة وتداعيات التغيير يبررها، لدى الساكنين، ويخفف من وطأتها الإيمان والأمل بحياة أفضل ومستقبل أجمل. فعند الصباح يحمد القوم السُّرى. كذلك هي حال التغيير في هياكل الدول. فمن أراد عظيماً خاطر بعظيم، وفي الوقت ذاته، لا أعتقد أن صاحب الجلالة يُقدم على خطوات ارتجالية غير مدروسة في هذا المجال، فلا شك أنَّه قد وضع المعالجات الضرورية لمُعظم، إن لم نقل لكل المخاوف المطروحة من عمليات تجديد الهياكل التنظيمية للدولة، ولن يكون هناك حل لمشكلة بخلق مشكلة أخرى، وإنما سيكون المعوّل الأساسي في عمليات التغيير، وإحداث النقلة النوعية، هو وضع النسبة والتناسب في الخاطر عند احتساب المخاطر، وتطبيق معايير الأفضلية في تحقيق الجودة والإنتاجية.

وعمان العظيمة والمجيدة، ذات العراقة والأصالة والمحتد، تستحق أن يؤخذ بيدها نحو المجد والسؤدد؛ وإننا لنعلق آمالاً كبيرة في صاحب الجلالة السلطان هيثم، أن يكون رائداً وقائداً لهذا التغيير المرتقب الذي سيرتقي ببلادنا إلى المكانة التي تليق بها بين الأمم.

وفي الوقت ذاته، على الشعب بكافة أطيافه وفئاته الوقوف معه وشد أزره لتحقيق هذا الهدف السامي النبيل، وأن يكف المحبطون والمرجفون عن توجيه سهامهم اللئيمة نحو هذه الغاية الجميلة والعظيمة.

تعليق عبر الفيس بوك