البعارين الجرباء

غسان الشهابي **

كتبت قبل مدة منشورًا على وسائل التواصل الاجتماعي عن أكثر العناوين والعبارات ابتذالاً في أوساطنا الصحفية، والإعلامية بشكل عام، وبينها الإعلام الاجتماعي، ومن دون الإطالة، كانت العبارة المنتزعة من تأوهات المتنبي لكونه قد جاور كافور الإخشيدي، حين افتتح هجاءه ببيت "عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ".

ومنذ ذلك الحين و"الجماعة" لا يأتي عيد إلا وصدّروه بهذه العبارة حتى فقدت معناها، وفقدت بريقها ورونقها، وما عادت تستوقف أحدًا، وما عادت تشدّ انتباه، وربما يكتبها كاتبها وهو يتثاءب من دون أن يبذل فيها جهداً، وأن يحك رأسه مرتين قبل صياغة ونحت تركيب لغوي جديد بعد هذا الذي قُتل صاحبه قبل 1055 عاماً.

ومنذ أن وعيت على هذه العبارة، قبل أربعين سنة ربما، أجدها أصدق ما تكون اليوم، على الرغم ما مرّت بنا من مصائب وكوارث وتقلبات وأهوال، وعلى الرغم مما عايشناه من حروب ونكبات، وحتى الحروب الصغرى منها والعالمية الكبرى، كانت تشتد في مناطق، وتخبو في مناطق، وتحرق مناطق بينما لا تدري عنها مناطق، وعلى الرغم من فقدنا للأحباب والأصحاب بشكل طبيعي، أو ربما غير طبيعي في بعض الأحيان، على الرغم مما رُزأت به الأمة العربية، أو إقليمنا الخليجي، أو دولنا القُطرية، ولكننا لم نشهد ما نشهد اليوم من تغيرات جذرية تجعل لا أحد أقرب من الآخر عن الانشغال بما يجري، ولا هناك من يدّعي أن الأمر لا يعنيه، وحتى لو حاول أحدنا أن يتجاسر على القوانين المحلية المتفاوتة فإلى أين سيذهب؟ إن هو قرر أن ينفك من أسره لينطلق فغالباً لن يجد أحداً لينطلق معه، ولا ليجلس معه في مطعم إن فتحت المطاعم أبوابها... سيجد أحدنا الارتياب... التنحّي... الجميع يتحاشى الجميع كما يتحاشى السابقون البعير الأجرب، سيراقبك الجميع إن سعلت، وقد لا يشمّتك أحدٌ يقول "يرحمك الله" لأنه سيكون مشغول بتنبيهك بكيفية وضع منديل على أنفك وفمك...

سيلاحظ الناس لأول مرة كيف يتصرف الناس، كيف قد غزاهم الوسواس، المسح قبل الجلوس، الحذر عند لمس أي شيء، والسؤال إن كان هذا الذي أمامهم نظيف بما يكفي أم بحاجة للتعقيم لكي تطمئن القلوب. الحديث سيكون عن الأرقام المرتفعة هنا وهناك، المصابون، الضحايا، العلاجات، الإجراءات، الصواب والخطأ، التصرفات، والاقتصاد الكوروني، الطب، التعليم عن بعد، لن يطرق الأبواب طفل لطلب "العيدية"، بينما سيكتفي الكثيرون بإرسال عيدية أطفال أقاربهم عن التطبيقات الهاتفية بدلاً من رؤية فرحتهم باستلامها منهم، ولن يدخل الناس زرافات زرافات للتهاني، وستغيب أصوات القبلات على الخدود، وسيكون التركيز على تمنيات السلامة قبل أي شيء... إنه "برنامج" حياتي جديد ومختلف.

هذه المرة الأولى التي لن أشعر بالضجر إن قرأت عبارة "بأية عدت يا عيد".

 

** كاتب بحريني