عندما ينهار السدُّ

غسان الشهابي 

* كاتب بحريني

ليست هي المرة الأولى التي ينفقئ فيها الدمل وتخرج منه القذارات في شكل تقاذف كلامي ما بين فريقين عربيين، لكننا شهدنا موقفيْن كانت فيهما الممثلة الكويتية حياة الفهد طرفاً، واحدٌ قبل شهر رمضان الكريم حينما ظهرت على شاشة محطة خاصة وزلَّ لسانها مُتحدثة عن العمالة غير المواطنة في الكويت، والثانية من خلال تجسيدها دور "أم هارون" في المسلسل الذي يحمل الاسم نفسه.

المعارك الإلكترونية العربية-العربية التي دارت منذ ما قبل عرض المسلسل كانت كفيلة لتقول ما قالته الكثير من المعارك المشابهة على مدى عقود مضت كلما حدث حادث لمواطن عربي في بلد عربي آخر، أو تلاسن رئيسين، أو تقاذفات إعلامية، أو مناوشات حدودية، أو حتى في مباراة كرة قدم، إنها لا تأتي بسبب هذا الحدث أو ذاك، بل لأن ما تفعله هذه الأحداث هو فتح باب السد ليتدفَّق منه سيل المواقف التي خزَّنها كل طرف على الآخر، ولم تكن تريد إلا هذه الفرجة والفسحة الضيقة لتنطلق بشكل كرصاص المدفع الرشاش واحدة تلو الأخرى، لا تدع مجالاً للتفكير، وكأنها "حفلة ردح" متبادل ما بين فريقين، ولا يهدأ هذا الحفل إلا بعد أن يفرغ الخزان مياهه، أو المدفع الرشاش رصاصه. ولك أن تقول: حسناً، ليخرج كلٌّ ما في نفسه على الآخر، حتى تهدأ النفوس ونبدأ من جديد... ولكن هيهات، فالسدّ أو الخزان سيعيد تعبئة نفسه من القاذورات نفسها، ويزيد عليها للمرات المقبلة، ملتقطاً ما سبق وقذفه به الجانب الآخر.. في انتظار ساعة الصفر التالية.

أرى أنَّ ما أدَّى في السنوات الأخيرة إلى تكرار هذه المواقف، هو الربط القسري بين المسارات الرسمية والشعبية، بين القضية والأفراد، الأخبار التي تشير إلى أن نظاماً عربياً... وإذا كان غير خليجي فليس في الأمر استنكار كبير كما هو الوضع في المغرب وموريتانيا ومن قبلهما مصر والأردن وكردستان العراق، ولكن الاستنكار إنْ كان خليجيًّا يغازل الكيان الصهيوني سرًّا وعلانية، وتعضد هذه الاتهامات أفعال على الأرض رياضية وثقافية وسياسية وبيئية واقتصادية وتجارية، لا يمكن تبريرها وتفسيرها وبلعها أو هضمها، قد قامت بها فعاليات رسمية أو شبه رسمية من هذه الدولة الخليجية أو تلك مع الكيان الغاصب، وكل ما سيق في التوضيح والتبرير لم يدخل في رأس عاقل، ولكن حرية بأن تزود ذخيرة المنتقدين حين تدق ساعة الصفر للمعركة الكلامية الفاصلة.

وفي المقابل، فإنَّ التشنيعات التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية على بعضها البعض نظراً للخلافات السياسية، سواء ما هو صحيح منها وما هو متضخم، والأخبار التي ترد أو تسريبات أن الفصائل كانت أكثر من صفى أو سهل تصفية خصومها، وأن مسؤولين رسميين على علاقة بوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، وأن أبناء القيادات هنا يزاملون أبناء القيادات هناك، والثراء الفاحش لدى قيادات، وأسمنت الجدار العازل...إلخ. كل هذه المعلومات على صحتها وكذبها كانت سهلة الترويج لتزيد منسوب خزان السباب.

يظهر من بعد أن يهدأ غبار المعركة من يقول إنَّه ليس من الإنصاف التعميم في أي من الطرفين، ولكن يكون قد قيل ما قيل، وتمت "شرشحة" الطرفين لبعضهما بأقذع الألفاظ وأقذرها.

تبقَى القضية الفلسطينية ليست لها علاقة بمن أساء أو أحسن، بمن بادر أو تخاذل، بمن سارع إلى الدعم أو سارع إلى الهدم، فهي عنصر ثابت ككل الثوابت في الوجدان، قد يؤلمنا تصرف أو انزلاق أو تآمر من قبل طرف ما، أو فصيل ما، أو نظام ما، أو نباح المطبعين أو عواء المزايدين، ولكن في نهاية المطاف فإن قضية فلسطين ركن أصيل من التكوين العربي الإسلامي الإنساني، حتى لو شاء التخلي عن هذا الركن من شاء.