ضو البيت (بندر شاه).. تعدد السارد والرؤى (1)

محمد علي العوض

يحدث أن يجتمع في النَّص الواحد من الرواية أكثر من سارد وصوت واحد.. وبالأحرى عدة ساردين، يحكي كل سارد منهم الحكاية والموضوع من وجهة نظره الخاصة، وبالتالي تتعدد زوايا النظر والرؤية في النص الواحد؛ وبالطبع تُصبح الحكاية هنا رهينة بمدى معرفة السارد بالشخصية ووجهة النظر إليها؛ ففي رواية عرس الزين مثلاً للأديب الطيب صالح تعددت وجهات النظر حول "الإمام" وفي "بندر شاه" بجزئيها ضو البيت ومريود تعددت الروايات ووجهات النظر حول حقيقة "بندر شاه" إذ إنّ كل سارد يسرد الحكاية من خلال من زاويته ووجهة نظره الخاصة، ويصف الشخصية داخل النص كما يراها هو.

اختلف النقاد حول نجاعة تقنية تعدد الساردين بين مؤيد ومعارض، فالمؤيدون ومنهم عبد الحميد المحادين مثلا يرون أنّ تعدد الساردين في الرواية الواحدة برهان سردي على أنّ الحقيقة نسبية دائمًا، ورهينة بموقع الساردين داخل النص ودرجات معرفتهم ونسبة تدخلهم في النص. كما أنّ هناك فائدة أخرى من تعدد الساردين وهو تعدد مستويات القصة، إذ إن هذا التعدد يجذب انتباه القارئ إلى مسلة تغير الساردين، وبالتالي يحدث نوع من التواصل بين المتلقي والسارد أو النص.

أما الفريق المعارض فيرى أنَّ مسألة تعدد السارين ليست في مصلحة المتلقي وتربكه كثيرا، فقد ذكر محمد العمامي في كتابه "الراوي في السرد العربي المعاصر" أن تعدد الساردين في النص الروائي الواحد يجعله عرضة لما يعرف بـ"تشظي السرد" أو تفتته، وبالتالي يشتت ذلك المتلقي/ القارئ فيعمل على ترتيب النص وإعادة بنائه من جديد.

أعتقد أنّ فريق معارضي تعدد الساردين فطنوا إلى أنّ مسألة ترتيب النص تعتمد بالدرجة الأولى على معرفة وثقافة المتلقي، مما يجعل الأمر عرضة للنجاح أو الفشل.

رواية ضو البيت "بندر شاه" واحدة من تلك الروايات التي تعدد فيها السارد، فقد مارس فيها الطيب صالح تجريباً سرديًا مزج بين الواقع والأسطورة.. وبين التقليدية والحداثة، فالرواية برغم أنّها صدرت عام 1971 إلا أنّ الطيب صالح بزّ فيها أقران زمانه حينما استخدم ما يُعرف بتقنية "تعدد السارد" أو لا واحدية السرد وتعدد الأصوات، والتي تعد حاليًا واحدة من سمات رواية ما بعد الحداثة.

ثنائية ضو البيت بجزئيها "بندر شاه" و "مريود" عدّها الطيب من أهم أعماله بعكس ما يتداوله النقاد والمثقفون بأنّ "موسم الهجرة إلى الشمال" وعرس الزين هما الأفضل على الإطلاق. كما وصفها بأنّها "أحدوثة عن كون الأب ضحية لأبيه وابنه"..

يدور الجزء الأول منها "بندر شاه" في فضاء الريف السوداني حيث قرية "ود حامد" ذات المكان الذي دارت فيه رواية "عرس الزين" والشخوص هم ذاتهم مع إضافة بعض الوجوه الجديدة كضو البيت مثلاً وأولاده وعلى رأسهم مريود بالطبع، وأولاد بكري الذين نازعوا خالهم محجوب زعامة القرية والجمعية التعاونية.

ويصدق عليها تماماً ما ذهب إليه عادل "حداثة" من أنّ الكاتب – أي مؤلف الرواية- يمنحك إحساسا قويا بأنّ هذه الرواية بدأت من حيث انتهت رواية "عرس الزين" فهي متصلة بأحداثها وبعض شخوصها. ويستدل على ذلك بجملة سردية وردت في رواية "ضو البيت" على لسان سعيد عشا البايتات حينما قال: (عليّ الحرام أخوك عَرّس عِرس خلى ناس ها البلد تنسى عرس الزين.. أسال أيا من كان يقولك العِرس عِرس سعيد ولا بلاش)..

ويضيف حداثة: (في هذا المشهد التصويري للواقع يذهب خيالك إلى "عرس الزين" كأنك تطالع رواية داخل رواية). وربما يشابه هذا القول ما ذهب إليه نقاد آخرون بأنّ "عُرس الزين، ضو البيت، مَريُود" هي عبارة عن ثلاثية روائية.

ومازجًا بين الواقع والأسطورة يتحدث الطيب صالح في روايته عن ضو البيت (بندر شاه) صاحب الأصول التركية، والذي ألقى به النيل ذات ليلة شاتية على شاطئ قرية ود حامد فأكرم أهلها وفادته حين أطعموه وداووه من جراحه، ثم احتضنوه ومنحوه أرضا وزوجة تحفظ للقرآن بعد أن اختتن وأعلن إسلامه؛ فصار بعدها رمزًا لفأل الخير وحسن الطالع (خير الدنيا انهمر عليه كأنّه يقول للشيء كن فيكون.. يزرع محاصيل الشتاء في الصيف والشتاء.. جلب شتل النخل أشكال وألوان من ديار المحس لحد بلاد الرباطاب).. علّم أهل القرية زراعة البرتقال والموز.

رمزت شخصيّة ضو البيت في الرواية إلى المدنيّة والتطور، فضو البيت علّم النّاس لبس الثياب ووضع العطور واستخدام أواني الطعام والشراب المتطورة بسبب البضاعة التي يجلبها إبان توقف الموسم الزراعي.. كبرت معه "ود حامد" وتطورت بسخاء يشبه يده وزعامته غير المتوجة؛ يقول الراوي على لسان عبد الخالق ود حمد: (هو يكبُر ونحن معاه نكبر، كأنّ المولى جلّ وعلا أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله، بنينا بيوت الجالوص بدل القش، ال كان عنده غرفة عمل ثلاثة وال ما عنده حوش عمل حوش. الجامع بنيناه من جديد ووسعناه وفرشناه بالسجاد والبساط هدية من ضو البيت).

(ضو البيت) هو مولود الماء.. جاء من الماء وإليها عاد.. يقول الراوي على لسان عبد الخالق أيضاً: (قام حسب الرسول بغتة وأخذ يجري وينظر في وجوه الناس وينادي: ضو البيت.. ضو البيت، بعد ذلك هاج الناس وماجوا، بعضنا نزل إلى الماء، وبعضنا جرى على امتداد الشاطئ وصوت المشاعل على الضفتين... صارت الدنيا كلها تنادي في جوف الظلام (ضو البيت، ضو البيت) انتظرنا يوما بعد يوم بين اليأس والرجاء؛ نقول لعل وعسى ولكن ضو البيت اختفى لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى؛ من الماء إلى الماء، ومن الظلام إلى الظلام).