البلطجة في زمن الكورونا

محمد علي العوض

 

دخل ابن السّماك يوماً على الخليفة هارون الرّشيد، فرآه يرفُعُ الماء إلى فمه ليشرب فقال:‏ مهلاً يا أمير المؤمنين‏ ‏أستحلفك بالله تعالى لو مُنعت هذه الشربة من الماء، فبكم كنت تشتريها؟ قال:‏ ‏بنصف مُلكي، قال السماك:‏ ‏اشرب هنأك الله، فلمّا شرب الخليفة قال له ابن السماك مرة أخرى:‏ ‏أستحلفك بالله تعالى، لو أنك مُنعت خُروجها من جوفك بعد هذا؛ فبكم كُنت تشتريها؟ قال:‏ ‏بمُلكي كُلّه..

مُلك يعادل شرْبة وبوْلة.. يا ترى بكم سيشتري هارون الرشيد "النفس الواحد لو أصيب بالكورونا ومتلازمة ضيق التنفس؟ بنصف ملكه المتبقي من شربة الماء؟

 (2)

قديمًا، في السودان عندما تداهم نوبة الربو ذلك التاجر الكبير وتتقطع الأنفاس، كان ينادي بصوت واهنٍ مستجدٍ: داير نَفَس.. داير نَفَس.. أهناك نَفَس للبيع..؟ هل أجد عندكم نَفَسا للبيع..؟ لكن لا باعة "أنفاس" ثابتون أو متجولون حتى؛ فقط صبيانه وعماله والحمالون من حوله ينظرون إليه بكل إشفاق وعطف، ويفسحون لها مجالا للتهوية بأيديهم والورق حتى تمر الأزمة، فقد كان يفسح لهم مكانا بجانبه في وجبة الإفطار.

 

 (3)

لم تخضع شركة جنرال موتورز، أكبر منتج سيّارات في الولايات المتحدة لطلب ترامب بتصنيع أجهزة تنفس إلا بعد لجوئه لقانون الإنتاج الدفاعي الوطني الأمريكي؛ الذي يتيح للرئيس إلزام الشركات بإنتاج ما تحتاجه الدولة في حالة الضرورة. وعملا بمبدأ "مصائب قوم عند قوم فوائد" نجحت جنرال موتورز في تحويل الأمر إلى صفقة مجزية فحصلت على عقد من الحكومة بقيمة 490 مليون دولار لإنتاج 30 ألف جهاز تنفس اصطناعي لمرضى كورونا في الولايات المتحدة.

ومن حسن الحظ أنّ العقد المبني على قانون الإنتاج الوطني أشبه بالبند المفتوح الممتلئ بالتسهيلات والإعفاءات، فهو يتيح لشركة جنرال موتورز الحصول على المكونات اللازمة لصناعة أجهزة التنفس سواء كانت مراوح تهوية أو خلافه من أي موردين بأقصى سرعة ممكنة.. فهل ستستثمر جنرال موتورز في هذه التسهيلات وتحضر حالها لما بعد انقشاع الجائحة؟

 (4)

لم تكن "جنرال موتورز" بدعا من الشركات فقد دخلت نظيرتها "فورد" الأمريكية اللعبة أيضا تحت ذات قانون الدفاع الوطني، واستخدمت أجزاء من سيّاراتها وشاحنتها لإنتاج أجهزة تنفس، ودروع للوجه ورداء واق للأطباء، وقد أنتجت أكثر من 3 ملايين درع حتى الآن، كما صنعت أجهزة تنقية الهواء والتنفس من أجزاء مقتبسة من المراوح الموجودة بالمقاعد المكيفة في شاحنتها، حيث تم تعديل وتجميع هذه الأجزاء وتوصيلها ببطارية صغيرة قابلة لإعادة الشحن ليسهل عملها في أي مكان..

(5)

القول بأنّ جائحة كورونا جعلت العالم على صعيد واحد محض أوهام، والقول بأنّ الجائحة أعلت من قيم التعاون والتعاضد؛ هو مجرد طوباوية مشتهاة.. ففيروس كورونا خلق تدافعا وتعاركًا بين بني البشر، وأفرز نوعًا من الصراع على معينات مكافحة المرض؛ وما نراه من مشاهد تعاون دولي هي مشاهد كاذبة وفي أغلب الأحوال "براغماتية" فالدول تتبادل المعلومات بينها خوفا على نفسها، كما أضحى التعاون مغلفا بالنعرة الشعبوية، فقد تعالت دعوات الشعبويين برمي المهاجرين والأجانب في الصحراء في حال امتلاء المستشفيات وجفاف الأسواق، مع أنّ كورونا لم تفرق بين المواطن والمقيم.. الغني والفقير.. أو الحاكم والمحكوم"..

كما كشفت الأزمة أكذوبة "الأمان المالي" و"الأمان الوظيفي" في دولنا العربية، لاسيما في القطاع الخاص الحلقة الأضعف، فقد ترك القطاع الخاص "المُنظم" لمواجهة الأزمة المالية الناجمة عن كورونا وحده بلا معين أو مساعدة حكومية تُذكر؛ فاتخذت شركاته قرارات منها تخفيض رواتب العاملين بنسبة 30 إلى 80% بجانب شركات أخرى سرحت آلاف العمال والموظفين.

أما القطاع الخاص الآخر "غير المنظم" ومن يسمون بأصحاب "رزق اليوم باليوم" فقد ترك للجمعيات الخيرية وتصاريف القدر وخواء البطن في زمن حظر التجول؛ وإن كانت هناك بعض المبادرات الخجولة من دول بعينها مثل المغرب وتونس ومصر؛ والتي تعهدت الحكومات فيها بتقديم دعم مادي محدود للأسر الفقيرة بينما لم تلتزم دول مثل السودان والعراق ومنطقة الخليج بأي التزامات تجاه هذا القطاع سواء كان "المنظم" أم غيره.

لكن الغريب في الأمر أنّه وخلال الجائحة لم يتم التطرّق أبدًا إلى القطاع العام -البقرة المقدسة-  ولم تأت سيرة على تخفيض رواتب العاملين فيه أو تأجيلها حتى؛ مع العلم بأنّ رواتب هؤلاء الموظفين في أغلب دولنا العربية تدفع من جيوب وضرائب شركات القطاع الخاص والقطاع غير المنظم وغالبيّة الشعب.

(6)

مثال آخر على نموذج التدافع والتعارك في زمن كورونا؛ استيلاء تركيا على شحنة أجهزة تنفس كانت قادمة من الصين وفي طريقها إلى إسبانيا، بالطبع تبرمت الأخيرة من الأمر، وقالت إنها دفعت ثمن الشحنة من حر مالها ولم تأت هبة أو تبرعًا من الصين، وأوضحت أنّ الشحنة مكونة من 162 جهاز تنفس لعلاج مرضى فيروس كورونا وخاصة بوحدات العناية المركزة.

وكانت نتيجة الضغط الإسباني الدبلوماسي إفراج تركيا عن نصف الأجهزة، برغم أنّ وزيرة الخارجية الإسبانية ماريا غونثاليث حاولت تبرير وتجميل وجه أنقرة بأنّ تركيا دولة صديقة وحليفة، وأنّها - أي تركيا- أرادت سابقا استخدام تلك الأجهزة لمرضاها؛ ولكن عندما رأت الوضع العاجل لدينا في إسبانيا قررت تقاسمها معنا وأبلغتنا بذلك..

(بلطجة النصف بالنصف في زمن كورنا).. ونفسي نفسي.

(7)

وفي "معركة الكمامات" اتهمت ألمانيا الولايات المتحدة الأمريكية بالاستيلاء على 200 ألف كمامة كانت مخصصة لشرطة برلين، وقالت ألمانيا إنّ شحنات الكمامات تم تحويلها إلى الولايات المتحدة أثناء مرورها في بانكوك.

وتقول الرواية الألمانية أنّ واشنطن صادرت الكمامات المصنعة من قبل شركة 3m -الأمريكية- بموجب القانون الأمريكي لسنة 1950 والذي منح الحكومة سلطات واسعة لمواجهة حالات الطوارئ من بينها توجيه الإنتاج الصناعي الداخلي والشركات الأمريكية لإنقاذ البلاد؛ الأمر الذي أزّم الموقف وجعل الشركات الأمريكية تخل بالتزاماتها مع المستوردين الأجانب.

وعلى غرار "تتعدد السرقات واللص واحد" تمّ اتهام أمريكا أيضًا من قبل مسؤولين فرنسيين بأنّها استولت على شحنة أقنعة واقية ضد فايروس كورونا كانت تعتزم الصين إرسالها إلى فرنسا، وقال مسؤول فرنسي إنّ الأمريكيين زايدوا على السعر الذي دفعته فرنسا، حيث تم دفع ثلاثة أو أربعة أضعاف ثمن الأقنعة، الأمر الذي جعل الشحنة تغير وجهتها من فرنسا إلى أمريكا بعد وصولها إلى مدرج أحد المطارات الصينية.

(8)

الواقع يقول إنّه في الوقت الذي تتضاءل فيه مخزونات الدول من أجهزة تنفس ووقاية وأدوية؛ فإنّ هناك دول باتت تعض على ما في حوزتها من معدات بالنواجز، وتحاول سباق الآخرين لـ"التكويش" على أكبر حصة ممكنة من المعدات؛ سواء عن طريق القنوات الشرعية المعروفة أو عن طريق "البلطجة في زمن الكرونا".