الوقت كله لله

محمد علي العوض

كعادته في الرقائق والحِكم يورد ابن عطاء الله السكندري تعريفاً لطيفاً للجهل بقوله: (ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه) ويقصد بعبارة "ما ترك من الجهل شيئا" أنّ الجاهل بلغ في الجهالة مداها؛ سواء كانت جهالة مُركبة أو بسيطة ومقصودة لذاتها؛ فالجهل نقيض العلم. وقسمه العارفون إلى قسمين؛ بسيط ومركب؛ فالبسيط هو الجهل الذي يعلم صاحبه أنّه جاهل، وأمّا المركب فهو الذي لا يدري أو يكابر صاحبه بأنّه جاهل..

ومثلما أنّ للعلم مقاماً فإنّ للجهل أيضاً مقاماً؛ لكنّه خفيض.. ولا يُمكن للإنسان الترقي في مقامات العلم الرفيعة دون أن يعترف بجهله؛ وقديما قيل: "الاعتـراف بالجـهل فضيلة"، ومن ثمّ الترقي لمقامات المعرفة عبر طلب العلم والسؤال.

الباحث في العرفان الإسلامي بدر الدين أبو البراء يصف ابن عطاء الله بالعالم صاحب اللطائف المهذب لاختياره مفردة (الجهل) صفة لمن أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه؛ ومعلوم أنّ الجاهل يعذر حتى يعلم، لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أذاه كفار قريش: (اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون) حيث اعتذر الحبيب المصطفى إلى الله المتعالي نيابة عن قومه بالتماس الجهل وعدم العلم.. وتبدّت مشاعر العطف والرحمة النبوية حين نسب الرسول الشريف القوم إليه بإطلاق مفردة "قومي" ولم يتبرأ منهم، فكأنّما أراد صلوات ربي عليه أن يسترحم ربه أكثر وأن يفرح بمكانته عند ربه باستخدام حرف "ياء" الملكية في كلمة "قومي". ولعلّ ابن عطاء الله اختار مفردة "الجهل" تأسيا بالحبيب المصطفى، وأوجد عذر الجهل لكل من أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه.

ويقول الباحث إنّ مَثَل حكمة ابن عطاء الله (ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه) كمَثَل إنسان كان يمسك كتاب الله مرتلا ثم سمع صوت أمه تنادي عليه لحاجة تحب قضاءها؛ فقال: ما أنا بقائم فأنا أقرأ كلام الله؛ أأنصرف من كلام ربّ العباد لكلام العباد؟

أو كإنسان كان يقرأ القرآن ثم جاء وقت فريضة الصلاة، فتجاهلها وطفق يُواصل قراءته حتى فات وقت الصلاةـ أو كحاج قال يوم عرفة: أنا لن أقف بعرفة وسأقصد البيت لأطوف به وأتعبّد الله هناك..

هذه النماذج الثلاثة تنطبق عليها تمامًا صفة الجهل التي عناها ابن عطاء الله في حكمته السابقة، فالأول جهل بأنّ برّ الوالد وطاعتهما والإحسان إليهما واجب أمر به الله في كتابه العزيز الذي تُعد قراءته نافلة وكان يحمله بين يديه حينما نادته أمه، أما الثاني فقد وقع في نفس شرك الأول؛ حين قدّم النافلة على الفريضة، وأمّا الثالث فقد جهل أنّ الحج عرفة، وأنّ الله شرع تواقيت الصلاة والصوم والحج والأعياد لحكمة إلهية مقصودة، فلكل عمل وقت وزمان؛ والوقت هو المجال الزمني الذي قضى الله تعالى فيه أن تظهر أنشطة الناس وأعمالهم؛ سواء المعاملات أو العبادات.

ويشرح أبو البراء أنّ ابن عطاء الله حينما يقول: (من أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه) فهو يعني أنّ الله يُبيّن للعبد ما هو مطلوب منه أو ما يحتاجه العبد في وقته. وابن عطاء الله حينما يتحدّث عن موقف جهالةٍ ما في وقت معين فإنّه يعتبر أنّ هذا الوقت انصرف إلى غير مراد الله تعالى، وأنّ بعض الناس يريد في وقت ما أن يُظهِر عملاً ليس من استحقاقات ذلك الوقت؛ وهذا مطلب نفسي وليس روحاني أو إلهي، فالمطلب الإلهي مراده الله سبحانه وتعالى، وقصديته رضا المولى القدير وابتغاء مرضاته؛ لأنّ الوقت كله لله "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وطالما أنّ الوقت كله لله تعالى فإنّه جلّ وعلا اختار مواقيت لشعيرة الصلاة ومواقيت أخرى للزكاة والصوم والحج والنوافل، وأمرنا بمعرفة المقام والسياق ومطلوبات الوقت والتفريق بين النافلة والفريضة والواجب والمستحب.

وتشير حكمة ابن عطاء الله إلى التسليم المطلق وعدم قدرة العبد على مُعاندة ربه أو مصارعته كما تصور ترهات الميثولوجيا الإغريقية والفرعونية القديمة، كما ليس للعبد قدرة مصارعة الكون أو الوقوف في وجه نواميسه الطبيعية اللهم إلا بمقدار القدرة البشرية القاصرة الآخذة بالأسباب، فترك الأسباب جهل والاعتماد عليها شرك.

 ولله الحكمة والمثل الأعلى في مقادير عباده ومواقيت أرزاقهم، فالحال وتبدل الحال من يُسر إلى عُسر ومن ضيق إلى فرج منوط بالرحمن ومقاديره الزمنية والكمية، لذا لا تعجل على رزقك فسيأتيك به الرزاق ذو القوة المتين المُتكفل بأقوات خلقه ومعيشتهم، ولن تكسبه بالشطارة أو الذكاء ورجحان عقلك؛ فكم من ذكي مُعدم فقير..! وكم من دعيٍّ يعيش كالأمير، وكما يقول أبو تمام:

 

ينال الفتى من عيشه وهو جاهل

ويُكدي الفتى في دهره وهو عالم

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا

هلكن إذن من جهلهنّ البهائم

 

وهو كما قال صالح عبد القدوس: "فضل المليك عليهم/ هذا عليه مُوسع ومضيق".. ولسيدنا علي أثر جميل حيث قال: يأتي الرزق للعبد حتى لو أغلق على نفسه بابه. فسألوه: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال كرم الله وجهه: كما يأتي له الموت وهو يُغلق عليه بابه.. فربّ الموت هو ربّ الرزق.

ومؤكد أنّ الله لا يعجل لعجلة العبد، ولا يشاء سبحانه كما يشاء العبد، واستجابة الرحمن لمشيئة عباده رهينة بمقاماتهم ودرجاتهم عنده، فربّ أشعثٍ أغبر لو أقسم على الله لأبره، وفي الحديث القدسي: "... وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.."

يروى أنّ أبا حنيفة صلى بالناس يومًا فأخطأ في أواخر آية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) حيث قرأها "والله غفور رحيم" فصححه الأعرابي قائلاً: "والله عزيز حكيم" فلما فرغ أبو حنيفة من الصلاة سأل عن الرجل الذي صوّب الآية فقال الرجل: أنا يا أبا حنيفة. فقال له أبو حنيفة أتحفظ السورة؟ فقال لا، وما سمعتها إلا منك، فتعجب أبو حنيفة وقال: وما الذي أدراك أنّ الآية تنتهي بـ "عزيز حكيم" وليس "غفور رحيم"؟ فقال الأعرابي: يا إمام لو كانت الآية ختمت بغفور رحيم لما حكم المولى عزَّ وجلَّ على السارق بقطع اليد، لكنّه لمّا عزّ في عليائه حكم على السارق بقطع اليد.

فحسب ذائقة الأعرابي وسليقته أنّ المقام هنا مقام عزة وحكمة لا مقام غفران ورحمة، و"لكل مقام مقال" كما يمكن القول بأنّ نظرية "السياق" هي وجه العملة الآخر من حكمة (ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يُحدِث في الوقت غير ما أظهره الله فيه).