أفريقيا التي يعرفونها وأفريقيا التي تأتي: لحظة كشف في البيت الأبيض

أحمد بن محمد العامري

ahmedalameri@live.com

في عالم تحكمه اليوم شعارات الشراكة والتنمية المتبادلة، لا تزال بعض العقول السياسية تعيش في زمن الاستعمار، تمارس الغطرسة وكأن التاريخ لم يتحرك، وتستبطن التفوق العرقي وكأن البشرية لم تتعلم شيئًا من قرون القهر والتوسع.

هذه الحقيقة تجلَّت بوضوح فجّ في الاجتماع الذي جمع الرئيس الأمريكي ترامب بخمسة من رؤساء الدول الأفريقية في البيت الأبيض؛ الاجتماع لم يكن لقاءً دبلوماسيًا متكافئًا، إنما مسرحية عبثية كشفت عن عمق الهوة بين الخطاب السياسي المعلن والسلوك الاستعلائي المبطّن.

ترامب، الذي لم يتقن يومًا أبجديات العمل الدبلوماسي، افتتح اللقاء بطلب مهين: دعا كل رئيس أن يذكر اسمه ودولته. لم يكن هذا مجرد تجاوز بروتوكولي، بل رسالة مقصودة في مضمونها: أنتم هنا لعرض أنفسكم، ولتثبتوا وجودكم أمامي. لقد تعامل معهم كما يتعامل صاحب العمل مع المتقدمين للوظائف لا كرؤساء دول لهم شعوبهم وسيادتهم وتاريخهم. لم يكن الأمر سوء تقدير أو خطأ عفويًا، إنما ممارسة مقصودة للهيمنة الرمزية، وإعادة إنتاج للعلاقة بين القوي والمتلقي، بين من يملك القرار ومن ينتظر الفتات.

لكن الموقف لم يتوقف عند حدود الإهانة الرمزية؛ إذ سرعان ما تحولت الجلسة إلى ابتزاز صريح، حين طالب ترامب الدول الأفريقية الخمس، كلًّا منها، بدفع ثلاثين مليون دولار سنويًا إلى الخزينة الأمريكية. وكأن العالم عاد قرونًا إلى الوراء، إلى زمن الإتاوات المفروضة على الشعوب الضعيفة، حين كان الاستعمار ينهب القارات باسم "الحماية". لم يكن هذا طلب مساهمة في برامج تنمية ولا دعمًا لمشاريع مشتركة، بل إعلانًا فجًا عن منطق القوة: سندعمكم إذا دفعتم، وسنتجاهلكم إذا لم تدفعوا بنفس ذات الأسلوب الذي تعمل به مع بعض القادة العرب.

في هذا المشهد، تبرز صورة أمريكا التي يعرفها كثير من الأفارقة؛ تلك التي تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العلن، لكنها في الخفاء لا تتوانى عن التعامل مع القارة كمجرد حقل نفوذ أو مخزن موارد أو ساحة مفتوحة لتصريف صراعات القوى الكبرى. ترامب لم يبتكر هذا السلوك، لكنه عبّر عنه بلا تجميل أو تزويق؛ عبّر عنه كما هو، عاريًا من الدبلوماسية فاضحًا لمنظومة التفكير التي تحكم جزءًا كبيرًا من السياسات الغربية تجاه أفريقيا حتى الآن.

والمفارقة الساخرة -بل المأساوية- أنه في خضم هذا الابتزاز والتهكم، طلب ترامب من الرؤساء الأفارقة أن يكتبوا له توصية لنيل جائزة نوبل للسلام! رجل يدعم آلة القتل في غزة، ويقف وراء سياسات تغذي النزاعات وتعمق الفقر وتمنع الشعوب من تقرير مصيرها، يطمح لأن يُمنح وسام صانع السلام. هكذا انقلبت القيم حتى أصبح صانع الحرب يطلب التصفيق والمعتدي ينتظر الثناء، ناهيك عن تعليقه حول إجادة رئيس ليبيريا اللغة الإنجليزية بطلاقة، بطريقة مستفزة، كمثيلتها عندما طلب من رئيس آخر اختصار كلمته، وكأن أفريقيا ما زالت تعيش عهد الاستعمار.

لكن ما لا يعرفه ترامب، وربما يعرفه ويتجاهله، هو أن أفريقيا اليوم ليست أفريقيا الأمس. لم تعد القارة تقف مكتوفة الأيدي أمام مشاهد الإهانة والابتزاز، هناك أفريقيا أخرى تنمو في صمت؛ أفريقيا المتعلمة، الواعية، المتيقظة لمصالحها والتي بدأت تخرج من تحت عباءة التبعية السياسية والاقتصادية.

أفريقيا التي تعرف أن شمالها الحقيقي هو الذي يضع مصالحها في المقدمة، لا الذي ينتظر التعليمات من الخارج.

تاريخ أفريقيا ليس تاريخ الفقر والصراعات كما يحلو للبعض أن يصوّره، إنما هو تاريخ الشعوب التي قاومت، والتي لا تزال تحلم بالنهضة، وتملك مفاتيحها.

ثلاثون مليونًا وثلاثمائة وسبعون ألف كيلومتر مربع من المساحات، ومليار وأربعمائة وثمانون مليون إنسان، وثروات طبيعية لا تضاهيها قارة أخرى، كلها أدوات لصناعة مستقبل مختلف. أفريقيا التي كانت رهينة الاستعمار لعقود، والتي مزّقتها النزاعات المصنوعة والممولة من الخارج، بدأت تعي -بل أنها باتت تدرك بوضوح- أن مصيرها لا يُكتب في عواصم الدول الكبرى ولا في قاعات البيت الأبيض ودوانج ستريت والإليزيه، بل في عقول شبابها وفي إرادة نخبها الجديدة التي قررت أن ترفض الإملاءات.

إن لقاء البيت الأبيض لم يكن مجرد مشهد سياسي عابر؛ كان لحظة كشف، كشف للطريقة التي ما زال بها البعض ينظر إلى القارة، وكشف للحاجة الملحّة إلى تغيير هذا الواقع. أفريقيا بحاجة إلى أن تفرض حضورها بالقوة الناعمة تارة، وبالندية السياسية والاقتصادية تارة أخرى.

رسالة هذا المشهد واضحة لأحرار أفريقيا: لا تنتظروا المستقبل، اصنعوه. لا تتوقعوا الاحترام بمنطق التوسل؛ بل انتزعوه بمنطق الندّية، "تخلصوا من بقايا أبناء الاستعمار غير الشرعيين الذين بقوا بعده"؛ فهم العائق الأول أمام امتلاك أفريقيا لزمام أمرها، وهم الحلقة التي يجب كسرها حتى تتحرر القارة من قيودها القديمة والجديدة.

"المستقبل يبدأ الآن"، ويبدأ حين تقرر القارة أن تضع أمثال ترامب في حجمهم الحقيقي: عابرون في لحظة تاريخية، بينما تبقى أفريقيا قارة دائمة، قارة الحياة والمستقبل.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة