السلطنة في العهد الجديد.. للأوفياء فقط

 

د. عبدالله باحجاج

 ظهرت فوق السطح وبجلاء منذ يوم السبت 11/1/2020، أهم خصلة إنسانية يتميّز بها المجتمع العماني، بهرت العالم، ومن خلالها فك العالم الكثير من الغموض والمفاهيم المغلوطة التي كان يحملها عن بلانا، ولن نبالغ إذا ما قلنا أنّها ستصطبغ به – أي المجتمع العماني – تفردا واستثناءً في عالمنا المعاصر، وهي كما يقول العارفون، عندما يبلغها الإنسان بمشاعره ومحسوساته، فإنه يصل لأحد مراحل بلوغ النفس البشرية لفضائلها، صدقا في القول وصدقا في الفعل معاً، وهي خصلة الوفاء، وأي وفاء، أنّه الوفاء النادر.

مما يشكل ذلك عنوان عمان في عهدها الجديد بقيادة عاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور- حفظه الله وأيده بنصره- وقد برز الوفاء النادر تجردًا من الذوات الفردية والجماعية في وفاة مؤسس النهضة العمانية المغفور له بمشيئة الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه، والوفاء النادر من قبل الشعب، الوفاء النادر من قبل عهدنا الجديد، وقف المجتمع الدولي مع هذا النوع من الوفاء، مذهولا بعد أن ظنّ علماء الدين والاجتماع أنّه لم يعد موجودا على كوكبنا الأرضي، وقد رفعه الله جل في علاه إلى السماء.

وقد تجسّد هذا الوفاء في صور كثيرة ومتعددة من كل الاتجاهات الأربع والمستويات الفوقية، سنركز هنا على ما يثير الوعي السياسي الخارجي، ويهز أسسه وثوابته التي بناها على رؤى ومرئيات مصالح مادية وسياسية وأسقطها علينا، مما يجعله الآن يعيد النظر في الحكم على سلطنة عمان كدولة عصرية مختلفة في بناها الفوقية والتحتية، وأنها لا تقاس بغيرها، ويمكن أن يقاس بها الغير.

فقد كانت عملية انتقال الحكم في السلطنة، تشكل الشغل الشاغل للخارج إذ كانوا يجهلون الاستثنائية العمانية في إطار زمانها ومكانها وكذلك في فكرها السياسي الحديث، والجهل نفسه كان يسري على ديمومة الاستثنائية، فقد كان البعض "العالم بها" يربطها في مرحلة مؤسس النهضة العمانية الراحل عليه رحمات الله ورضوانه، وكم كانت المفاجآت، عندما ظهرت فوق المشهد الوطني، مؤسسات مدنية وقضائية وأمنية وعسكرية قوية ضمنت انتقال الحكم في السلطنة بصورة هادئة ودون ضجيج، ففي سويعات بل ربما لا تتجاوز أربع ساعات تمّ خلالها تسمية السلطان صاحب الجلالة هيثم بن طارق بن تيمور من خلال وصية من السلطان الراحل أجمع مجلس العائلة المالكة على الاحتكام إليها، ومن ثم تنصيبه في جلسة مشتركة لمجلس عمان "الدولة والشورى" ومجلس الدفاع.

وقد تجلت قمم الوفاء بصيغتها الإنسانية المجردة في خطاب لجلالة السلطان هيثم، فقد قاد منظومة الوفاء الوطنية للسلطان الراحل بصورة متكاملة ومتناغمة من وفاء اجتماعي وسياسي يدخلان في صلب الاستثنائية العمانية، فقد كان هذا الخطاب صادقا في كل فقراته، ومعبرا عن كل مشاعر وعواطف العمانيين، ومنه نفذ سلطاننا الجديد إلى كل قلوب العمانيين من جهة وبعث برسائل الاطمئنان للخارج من جهة ثانية.

ومن منا لم تتغلغل في سيكولوجيته وتدغدغها، وصف مؤسس نهضتنا بأنّه "أعز الرجال وأنقاهم"؟ ومن منّا لم تؤثر في سيكولوجيته قول سلطان العهد الجديد "سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له السلطان قابوس..." معددًا إنجازاته، ومؤكدا على الثوابت التي اختطها الراحل رحمه الله، بما فيها التزامه بكل الاتفاقيات وعضويات المنظمات الإقليمية والعالمية، فماذا نسمي ذلك؟ إنّه الوفاء السياسي يقابل الوفاء الاجتماعي الذي عبر عنه الشعب في صور شتى، منها صلاة الغائب في كل مساجد البلاد، وانهمار الدموع حزنا، ورفع أكف الدعاء لله رحمة عليه وغفرانا، وقراءة القرآن على قبره، ومبادرات العمرة... إلخ.

من هنا، يمكن القول إن عمان اليوم في عهدها الجديد، تؤسس لمستقبل قوامه الوفاء المتبادل بين كل بنى الدولة العمانية المختلفة، وهو عنوان ينبغي أن يصبغ مرحلتنا الوطنية الراهنة، لأنّه قد تأسس منذ أول يوم على رحيل سلطاننا المؤسس رحمه الله، وكذلك منذ تولى العرش سلطاننا الجديد حفظه الله، فلا مجال للحديث عن مستقبل البلاد في عهدها الجديد، سوى الوفاء الواجب من الكل، وبالتالي، فإننا هنا ينبغي أن نؤطر الوفاء كقيمة أو خصلة تتجاوز مفهومها الاجتماعي/ الإنساني إلى مفهوم سياسي، كمعيار تنموي يخفف الأعباء الثقيلة عن المواطنين الناجمة عن نقل دور الدولة من الرعائي إلى الجبائي، ويحقق للباحثين عن عمل أحلامهم في الوظائف الآمنة والمستقرة، ويحفظ ماء وجه المتقاعدين وأصحاب الضمان الاجتماعي، ويحافظ على ثروات الدولة.

وكذلك كمعيار في اختيار النخب الوزارية، وكل نخبة تتشرف في العهد الجديد بمسؤولية خدمة الدولة والمجتمع، فمن لا تتوفر فيه صفة الوفاء النادر، لا ينبغي أن يتحمل أية مسؤولية في العهد الجديد، وذلك في إطار إصلاح الحقل السياسي الذي يمكن أن نصفه أنه قد أصبح ومنذ عدة سنوات مسيرا للأعمال اليومية بعيدا عن الرضا الاجتماعي، وبعيدا عن مواجهة تحديات داخلية.

ومن منطلق الوفاء النادر "الحاكم للعهد الجديد"، تظل هناك تساؤلات نتركها انتظارا للإرادة السياسية للعهد الجديد، لأننا كما قلنا في مقال إلكتروني إنّ العهد الجديد يعرف ماذا يريد، ويعرف إلى أين يتجه، ويعرف حجم التداعيات التي تأثر بها المجتمع من جراء تحولات اقتصادية واجتماعية؟ وبالتالي يعرف حجم الآمال الاجتماعية في كل مراحلها الزمنية، العاجلة والقصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل.

وأبرز هذه التساؤلات:

كيف سينظر العهد الجديد إلى مجلس عمان وبالذات مجلس الشورى خاصة في مجال الرقابة على رؤية "عمان 2040"؟ وكيف يتصوّر العهد الجديد طبيعة العلاقة التي ينبغي أن يقوم بها مجلس الشورى وباقي المؤسسات الدستورية الأخرى بعد أن انتقل دور الدولة من الدور الرعائي إلى الدور الجبائي؟ وكيف ستكون علاقة المؤسسة السلطانية بالجهاز التنفيذي؟ تطرح هذه التساؤلات رؤية منهجية تنطلق من رؤى سياسية نافذة.

وبالتالي، فإنّ التطلعات تتجه الآن إلى العهد الجديد، فالوفاء النادر يترتب عليه اختيار الفاعلين والسياسات التي تحس بالمواطن في لقمة عيشه وفي أحلامه، وكذلك تعمل على ردع من يستفز المواطن في وطنه وفي رموزه، ولا يجعل المواطن يواجه مثل هذه التحديات لوحده.

وأخيرًا.. نسأل الله جلّ في علاه لجلالة سلطاننا المفدى التمكين والنصر والبطانة الصالحة.