التمكين والحياة.. تكامل أم تزاحم؟!

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

قد يدعي البعض صراحة أو ضمنا أن "الحياة صراع"، ويذهب البعض كل مذهب من ادعاءات باطلة، تجدها في طيات الكلام ونشره "الحياة غابة، والبقاء للأقوى، وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، ... "، وقد يعزو البعض صراع الحياة إلى تقاطع المصالح، واقتطاع الأرزاق، ودونها بذل المهج وفناء النفوس؛ وهو إن صحَّ الظن فهو اتهام ضمني للقدرة والحكمة.. فهل خلقوا للصراع والمزاحمة، أم التعاون والتمكين؟

وهذا من بديع صنع الله تعالى أن يجعل لكل الخلق ــ رغم التزاحم ـــ يجعل لكل منهم نصيبا من الحياة مهما كانت بساطته، ومهما استحقر هو أو غيره قدر ما رزق من العطاء الحسي أو المعنوي ، لكن تزاحم الخلق لن تغلب سعة العطايا من حكيم كريم، ولقد يسلب الإنسان كثيرا مما أنعم به على أقرانه ثم يفوقهم في شاكلة تعوض عليه ما فقده أو يغلبهم في قوة عقلية أو ذهنية، أو خصوصية ذاتية قد مَنَّ الله بها عليه فاستعاض بها عما فقد، وقنع بما رزق، وتوجهت نفسه إلى الانتفاع من خير ما أعطي عن قناعة دون الالتفات إلى عطايات غيره.

أما التنازع الذي يجدّ في الكون فهو ليس من اختلاط التمكين، ولا التزاحم الذي يعيق سعيه سعي غيره، إنما يأتي التنازع من داخل النفس الإنسانية الباغية، أو الطاغية، أو المتوقة إلى أكثر مما لديها، وأما تدبير الخالق فهو منزه عن ما يجدّ من البشر، ومبرؤ مما يصدر من نفوسهم من البغي أو الافتئات أو الانحطاط ، أو التبعية البغيضة التي يتذرع بها البعض بحجة ضيق العطاء، والتفاف الحاجات، ومسارعة المطالب.. وما هو إلا تقاعس أنفس عما مُكِّنتْ فيه، أو السعي فيما رُزِقتْ ولو بأقل القليل؛ لكن الالتفاف أو الالتفات إلى ما في عطاء الغير هو عين المضيعة لخصوصية العطاء التي اختصَّ بها في الأولى والآخرة.

وقد ذكر الله عن تمكين (ذي القرنين) حين أعطاه من كل شيء سببا يُمكِّن له فيما جعل له من الملك، فقال " إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)"، قال الشيخ الشعراوي "وأعطاه من كل شيء سبباً، ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطى، فلم يتقاعس، ولم يكسل، بل أخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب".

وهو في أمره هذا مغبون حين يولي وجهه شطر منفعة غيره، ويصرف جهده إلى مصلحة لم يُمكَّن فيها، ولم يُخلق لها، ويظن بجهله أن التبعية قد تؤتيه من حظه شيئا مما فاته، أو تغير من قدره قليلا أو كثيرا،  وما ذلك إلا مَعجَزة، وكما حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال" واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدَّرَ الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان".

إن مسارات الأقدار المخطوطة بمنتهى الحكمة لكل مخلوق، هي فقط التي ينتج الخير من اقتفاء صاحبها لأثرها، وتؤتي أكلها بإذن ربها، مهما رآها بسيطة أو يسيرة، أو احتقر حظه من الحياة فيها، لكنه إن سلم لأمرها وسعى لها سعيها وهو موقن بأن الله جعل لكل سعي أثرا، وقدر لكل أسباب نتائج؛ وهذا من السنن الكونية التي تجري حتى على الكافر، فما على الإنسان إلا أن يفرغ جهده مهما كان يراه قليلا، فإن الله جعل له نتاجا، قد يطمى على قدر الجهد ويزداد.. وهذا أيضا من عجائب تصاريف القدر، فقد يعطي أحيانا على قدر الجهد، وأحيانا دون الجهد، وأحيانا عطاء يدع الحليم حيرانا، والعاقل مفتونا، كما قال الشاعر:

كم عالم عالم قد أعيت مذاهبه    وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي صير الأفهام حائرة     وصير العالم النحرير زنديقا

وقد قال أبوتمام في مثل هذا شيئا:

ينال الفتى من رزقه وهو جاهل    ويكدى الفتى في دهره وهو عالم

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى    هلكن إذا من جهلهن البهائم

لكن تأمل سنة الله الكونية في العطاء نرى أنها لابد أن تعطي لكل صاحب سعي، مهما تنوعت مكافآت العطايا مع الجهد، إما عن فيض وكرم، وإما عن ابتلاء، وإما تأخير لأجل يكون فيه عين العطاء محمودا عاصما  صاحبه من أن يطغى.

وأما المغبونون التابعون الناعقون في كل وادٍ: فهم الجانون بلاشك ــ كما قال (المازني) ـــ حصاد الهشيم، هؤلاء المشغولون بما ليس لهم، المفنون أعمارهم في إثر غيرهم، ثم تكون عليهم حسرة.

فقد اقتضت الحكمة من التمكين خصوصية العطاء، وخصوصية الخلق، وخصوصية التفكير والعقل والتدبير، ولم تجعل لعقل على عقل سبيلا، ولا لقلب على قلب سلطانا، ولذا اقتضت كذلك خصوصية الحساب فجعلت "لا تزر وازرة وزر أخرى" ،  وجعلت "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى" .. وهكذا لو علقت مصير نفس على نفس، أو خطت قدر امرئ مع غيره، لأشكل على كل منهم حسابه في النهاية، أو البداية، ولكنها، فصلت هذا العطاء أيما تفصيل وبينته أيما تبيين، ولذلك لم تقبل من أحد صرفا ولا عذلا ولا عذرا.

إن استفراغ الطاقات النفسية والبدنية والعقلية في اللاجدوى، وإنفاقها في غير ما صرفت له، بل في مناحي الضرر أحيانا لهو أشد الغبن ومنتهى الحمق، وقد علم كل أحد أن متبوعه متبرأ منه إن عاجلا أو آجلا، ولن يغني له من أمر قدره فتيلا أو قطميرا ، بل ولن يغني من قدر نفسه لنفسه كذلك.

وإن الثقة في استجلاب الرزق من الجهد مع  حسن السعي، والانشغال مع عطايا التمكين مع الاستعانة بمقومات التيسير، لهي من أقوى علامات الإيمان" اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ، والثقة في ما عند الله عما عند الناس، وهو من أبواب الشكر، ومن دواعي الزيادة في العطاء والبركة والرضا النفسي والقلبي بالله وعن الله.

وإن من أهم أسباب ضياع جهودنا سدى، وإثمار جهودات أعدائنا هو سر هذا التمكين، وقد ضاعت الجهود لأنها لم تصرف لما مكن أصحابها فيه، ولكن ضيعت فيما ليس لهم به علم؛ ثم آتت جهود أعدائنا بما انشغل كل منهم بنفسه وما ينفعه ويصلح أمره، ثم ما يصلح جمعهم، وانصرف كل عما لا يعنيه؛ فكانوا في عموم الحياة وأسبابها  أشد منا تمكينا وأشد قوة، وقد تركنا لهم ملاك زمام الحياة حتى ملكوا زمام أمورنا وصرفوا أقدارنا كما مكنوا، وصرفونا كما اقتضت تبعيتنا لهم.

وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه"، " رحم الله امرءا عرف قدر نفسه " خلاصة قصة التمكين وانشغال الإنسان بما يعني أمره، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - الكفاء والوفاء .

 

 

تعليق عبر الفيس بوك