نحو خطاب ديني متصالح مع العالم (17)

المسلمون والغرب

 

دعبدالحميد إسماعيل الأنصاري

كما أسلفت، فإنَّ المسلمين محكومون بخطابهم الديني المهجوس بالغرب المعادي للإسلام، رغم شدة احتياجهم له، وعالتهم عليه في كافة مقومات معيشتهم، وأمنهم، وحمايتهم، ومع ذلك فإنَّ خطابهم الديني العام هو الأكثر هجاء له، والشكوى منه.

لا يزال قطاع كبير من المسلمين يلومون الغرب، ويحملونه مسؤولية تخلف أوضاعهم، مع أن قرآنهم يقرر أنهم المسؤولون "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"، وأن التغيير بأيديهم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

مقولات "الغرب الصليبي" "الغرب الحاقد على الإسلام" "الغرب عدو الإسلام" تَشِيع في الأوساط الإسلامية المختلفة، وتتضمن تعميماً ظالماً وجهلاً معرفياً، مناقضاً لهدي القرآن في الحكم بالعدل، وعدم التسرع في إطلاق التعميمات؛ فالغرب أغراب، فيهم المنصفون لنا، والمتعاطفون معنا، والمدافعون عنا، الغرب -أقصد أوروبا وأمريكا- هو الذي أدب سفاح الصرب وحاكمه، وهو الذي أنقذ المسلمين من الفناء في كوسوفو والبوسنة، وضرب على أيدي الصربيين، كما شهد به الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش، وهذا الغرب هو الذي أسهم في تحرير الكويت.. وبالعقلانية في السلوك، والواقعية السياسية، وإحسان العلاقة مع الغرب، تحقق هذا الأمان والرخاء والاستقرار والازدهار الذي ينعم به الخليج اليوم.

لا يصحُّ وصف علاقات المسلمين بالغرب -أوروبا وأمريكا- بالعداء؛ فهي كعلاقتنا بالصين واليابان وروسيا...وغيرها، تحكمها قاعدة واحدة، هي المصالح المشتركة، والاعتماد المتبادل، وهذه المصالح تتفق تارة، وتتناقض تارة أخرى، لكنها لا تصل إلى العداء بأي حال.. وفِي عالم العلاقات الدولية لا تُوجد عداوات أو صداقات دائمة، وإنما مصالح دائمة، وقد شهدت هذه العلاقات، عبر التاريخ الطويل، مراحل مختلفة من الاتفاق والاختلاف، والإيجابيات والسلبيات، لكن الإيجابيات كانت هي الأكثر، فأفضل العقول العلمية العربية والإسلامية الرائدة، والحاصلة على "نوبل" تخرجت في جامعات "الحقبة الاستعمارية" !

وللغرب الدور الأكبر في حماية الشعوب العربية والإسلامية وتحريرها من طغاتها المستبدين.

إنَّ اصطناع عدو بمنزلة الغرب، وزرع كراهيته في نفوس شبابنا، سيحرمنا من الإفادة منه، ومن علومه ومعارفه ونظمه الإدارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية المتطورة وإنجازاته العلمية والتقنية والمعرفية، في الوقت الذي يجد فيه المسلمون مجتمعاتهم في حاجة ماسة إليه، في طعامها ودوائها وسلاحها وتقنيتها، وكل مستلزمات حياتها، كما تشكل الاستثمارات الغربية خاصة المساعدات التي تقدمها أمريكا، وهي بالمليارات، العامل الأكثر وزناً وحجماً في تنمية العالم العربي والإسلامي -معونة أمريكا لمصر وحدها، وهي معونة تنموية اقتصادية وعسكرية سنوية لا ترد، تقررت عقب اتفاقية السلام 1978 تزيد على مائة مليار دولار- ولا غضاضة، فأوروبا نفسها وألمانيا بالذات، واليابان وكوريا، وبقية النمور الآسيوية، ما تقدمت إلا بالمساعدات الأمريكية.

ولولا الدعم والتشجيع الغربي للسلطات الحاكمة في الدول الإسلامية، بإجراء الإصلاح السياسي، واحترام حقوق الإنسان، وتوفير الحريات العامة، وتطويرمناهج التعليم، ما كانت لهذه القيم، ولا لنظم التحديث والتطوير، أن تجد متنفساً، في بلاد المسلمين !

عجبت لمسلم يسلم عقله لداعية يحرم تحية الغربيين أو مودتهم، وهم يرحبون بالإسلام والمسلمين في ديارهم، ويعاملون كمواطنين من الدرجة الأولى.

خطأ كبير، بحق ديننا وأنفسنا وأمتنا، والمسلمين في الغرب، أن نصف علاقتنا بالغرب عامة، وبأمريكا خاصة، بـ"العداء"، بل ذلك من الخطورة التي تصل إلى حد "التهلكة" أو "الانتحار".

إنَّ جانباً كبيرا من الطرح الديني التحريضي ضد الغرب، طرح انتحاري مهلك، يغذي التطرف، ويحول شباب المسلمين إلى قنابل بشرية، ليست ضد الغرب فحسب، بل ضد مجتمعاتنا وأنظمتنا وأوطاننا، وهي في النهاية، مقولات يرددها خطباء ودعاة أيديولوجيون، يوظفون الدين توظيفاً نفعيًّا، بهدف التكسب الشعبوي، والنفوذ السياسي والمادي.

وأخيراً: لا يُمكن تحقيق نهضة إلا إذا تمَّ التجاوز عن الأيديولوجيات المعادية للغرب، والتحرر من وساوس التآمرالغربي.

 

* عميد كلية الشريعة جامعة قطر سابقاً