إنسان الثورة الصناعية الرابعة

 

غسان الشهابي **

** كاتب بحريني

 

أينما التفتنا اليوم وجدنا عبارات الثورة الصناعية الرابعة تُحاصرنا، ويكاد المتعلقون بها يخنقوننا بادّعاءاتهم لأمور لا يعرفون عنها إلا أقل القليل، فالمجد اليوم لمن يعرف تحليل البيانات الضخمة، ولمن يُجيد التعامل مع الذكاء الاصطناعي، والوجاهة لمن أعماله قائمة على السلاسل المُترابطة، والفخر كل الفخر حينما يكون من أمامك قد تخصص في إنترنت الأشياء... هذا هو المُستقبل إن أضفنا إليه الطباعة ثلاثية الأبعاد والجيل الخامس في الاتصالات، عندها ستتغير حياتنا إلى غير رجعة، ولن تعود كما كانت أبداً.

هنا هو الموضوع الأساسي في هذا المقال، فهناك اندفاع كبير للنواحي التقنية وما ينتج عنها من علوم تابعة ومعارف جديدة ستجعل كل شيء يدرّس اليوم في المدارس والجامعات متخلفاً جداً، وهناك حياة كاملة ستنقلب أكثر مما هو عليه الحال اليوم، سوف لن نتعرف على أنفسنا، بالأحرى لن تكون هناك سعة من الوقت لنقف فيها متعرفين على أنفسنا، إذ ربما سيكون "الزمن الجميل" هي ساعات أول النهار وليس السنوات الخمسين التي مضت، فالسرعات الهائلة جدًا التي تعدنا بها المخترعات اليوم ليست بالأمر الهيّن. والسؤال في كل هذا لمن لا ينتبه: أين موقع الإنسان في هذه الساحة الجديدة؟

المتتبع للتوجّهات في الدراسة في الجامعات العربية على وجه الخصوص، سيرى الاستكمال الكلاسيكي لثنائية (طب – هندسة) مع اتساع تخصص تقنية المعلومات بشكل هائل، مع تراجع أكبر لكليات الإنسانيات على اعتبار أنَّها كليات غير منتجة، أو أنها عالة على الحداثة والاقتصاد والتطور، وهي كذلك فعلاً لأنها عادة ما تكون "الغربال" الأخير ذي الثقوب الأضيق الذي يتلقى ما يسقط من جميع الغرابيل من الطلبة الذين تصطفي منهم "كليات القمة" من تريد وتترك الباقي للأقل فالأقل بحسب الوظائف التي سيشغلونها بعد التخرج، إن لقوا وظائف أساساً، وتبقى التخصصات المعنية بالإنسان متذيلة هذا الترتيب.

إنَّ البشرية جميعها، وليس الوطن العربي وحسب، بحاجة ماسة اليوم وغداً، إلى مواكبة العلوم الإنسانية للعلوم التقنية، لأنَّ الإنسان الذي سيتعرض لهذا الكمّ الكبير جداً من المُتغيرات ستتغير معها الكثير من العلاقات، ولا ندري إلى أين سيقوده هذا التطور، هل سيكون ذلك إلى إنسانية أكثر، أم مواصلة الابتعاد عن نقائه الذي نعتقده؟ كيف سينظر إلى القيم؟ ما مدى مركزية الدين في حياته؟ إلى أين ستتجه المجتمعات مع زيادة الاعتماد على التكنولوجيا وتغلغلها أكثر في حياتنا؟

هناك أطنان من الأسئلة التي تتعلق بالإنسان الذي سيتعرض لهذا الكم الهائل من التطورات، ومصيره، وقبل أن ترفع رؤوسنا على كوارث تتعدى العنف، والتطرف، والقتل المجاني، وتجلد المشاعر الإنسانية، ومواجهة الانحرافات بالهراوات، لابد من صهر العلوم الإنسانية والتقنية معاً لإحداث النقلة التكنولوجية على أسس معرفية واضحة لما يمكن أن يمر به المجتمع، وبوعي أكبر بطرق علاج مشاكله، والتنبه الأبكر لها.