صراع الراوي والشخصية

محمد علي العوض

روى الناقد الأدبي د. سيد البحراوي أنّه في عام 1985 اختار رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لعبقري الرواية العربية الطيب صالح ليدرسها لطلابه بقسمي اللغة الفرنسية واللغة الألمانية. وقال إنّ الرواية لامست شغف الطلاب وأعجبوا بها لدرجة أن غاصوا في أعماقها وقدموا عنها قراءات مختلفة ومتميزة. وفي يوم ما وصل إلى رئيس الجامعة خبرٌ مفاده أنّ البحراوي يدرس طلابه رواية إباحيّة؛ فما كان منه إلا أن استدعاني، وأظهر لي الصفحات التي تتحدث فيها بنت مجذوب بألفاظ جنسية صريحة وسألني بوجه غاضب: هل تقرأ هذه الألفاظ أمام الطالبات؟

يواصل البحراوي حكايته التي سردها في كتابه "الأنواع النثرية في الأدب العربي" قائلا: حاولت أن أوضح لرئيس الجامعة صلة هذه الصفحات ببقية الرواية وأهميتها في بنائها، لكنّه رفض وأصرّ على حذف الرواية كاملة من المقرر. وهذا أدى إلى اتساع دائرة المشكلة بيننا وتدخلت بعض الصحف وكادت الأمور تتعقد لولا حكمة قسم اللغة العربية وتماسكه وإصراره على أهميّة الرواية في الأدب العربي وأهميّة أن يقرأها الطلاب.

يشير البحراوي إلى أنّ طلابه فتحوا عينيه على زوايا وقراءات جديدة من رواية موسم الهجرة إلى الشمال استفاد منها شخصيًا هو واستمتع بها.

ومن أبرز هذه القراءات حول الرواية نفي التصوّر السائد عن أنّ رواية موسم الهجرة إلى الشمال هي تجسيد للصراع بين الشرق والغرب. ويوضح البحراوي أنّه على الرغم من أنّ هذا الصراع قائم في الرواية وحاد ويمثل عمًقا من أعماقها، إلا إنّه ليس إلا صدى لصراع آخر أبعد وأكثر غورا في داخل الرواية وخارجها؛ وهو الصراع الدائر في المجتمع السوداني ذاته. وتمثل ذلك في الصراع بين شخصين هما الراوي المشارك في أحداث الرواية وشخصية مصطفى سعيد؛ فأحدهما يمثل الشرق والآخر يمثل الغرب.

وهذا الصراع بدأ منذ اليوم الثاني لوصول الراوي لقريته.. يقول البحرواي: "ففي اليوم الأول كان الراوي سعيدًا بعودته بعد أن قضى سبع سنوات في أوربا وإنجلترا تعلم خلالها، وهذه السعادة يمكن التقاطها بسهولة من بين ثنايا مقطع (أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها، فأحس بالطمأنينة، أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أهل، له جذور له هدف).. ويفرض هذا المقطع علينا أن نقرأ ما وراءه، وهو أنّ الراوي كان مهددا بفقدان هذه الأصالة والجذور الثابتة حين كان في الخارج في -أوربا- ولكنه كان سعيدا حين عاد إلى قريته التي وجدها كما هي.

غير أنّ هذه السعادة لم تدم كثيراً؛ ففي الصفحة الثانية من الرواية مباشرة تبدأ انفعالات التوتر والقلق، وتبدأ أولى بوادر الصراع لأنّ الراوي يكتشف أنّ من بين المستقبلين شخصا لا يعرفه وهو "مصطفى سعيد"، وتبدأ رحلة التعرّف على هذا الشخص وإثارة الأسئلة.

ويورد البحراوي نصا يرى أنّه يصف تمامًا ثيمة الصراع في الرواية؛ وهي لحظة اقتحام السر؛ سر مصطفى سعيد: (أدرت المفتاح في الباب فانفتح دون مشقة. استقبلتني رطوبة من الداخل ورائحة مثل ذكرى قديمة. إنني أعرف هذه الرائحة" رائحة الصندل والسند. وتحسست الطريق بأطراف أصابعي على الحيطان. اصطدمت بزجاج نافذة. فتحت مصاريع الزجاج وفتحت مصاريع الخشب. فتحت نافذة أخرى وثالثة. ولكن لم يدخل من الخارج سوى مزيد من الظلام. أوقدت ثقابا. وقع الضوء على عيني كوقع الانفجار. وخرج من الظلام وجه عابس زاما شفتيه أعرفه ولكنني لم أعد أذكره. وخطوت نحوه في حقد. إنه غريمي، مصطفى سعيد. صار للوجه رقبة، وللرقبة كتفان وصدر ثم قامة وساقان. ووجدتني أقف أمام نفسي وجهًا لوجه. هذا ليس مصطفى سعيد. إنّها صورتي تَعبُسُ في وجهي من المرآة).

وتبدو شخصية مصطفى سعيد في هذا السياق كما يصف فخري صالح وكأنها حلت في شخصية الراوي أو كأن جرثومة هذه الشخصية قد أصابت بعدواها الراوي الذي رأيناه ساكناً مطمئناً قبل تعرفه على مصطفى سعيد وقصّته.

ويتواصل هذا الصراع حتى بعد اختفاء مصطفى سعيد الجسدي، فدوره في الرواية لم ينته بعد؛ وإنما بقي ممثلا في تراثه الذي عهد به إلى الراوي: الحجرة/ الأولاد/ الزوجة.. فالراوي أخذ يرعى هذا التراث حين احتفل بختان الولدين وزار الزوجة حين علم أن وِد الريس" يرغب في أن يتزوجها، وعرض عليها الأمر فرفضت، وشعر في رفضها بأنّه ليس ولاء لزوجها فحسب، وإنما نوع من الحنين الخفي له هو شخصياً أشار إليه محجوب في الرواية حين قال للراوي: "لماذا لا تتزوجها؟".

يصم البحراوي الراوي بالهزيمة والوحدة، لأنّه لم يتخذ قرارا بالزواج من حسنة بل سافر إلى عمله في الخرطوم، وحين جاءه خبر قتل حُسنة لـ" وِد الريس" ومقتلها أيضا عاد إلى البلدة منزعجا ومؤنبا نفسه لأنه لم يختر ولم يقرر ولم يفعل، وأنّه لم يستطع أن يكون على قدر الأمانة التي عهد إليه بها مصطفى سعيد، وينفي البحراوي أن يكون المجتمع وتقاليده هما السبب في هزيمة الراوي وعدم اتخاذه الخطوة، عازيا الهزيمة لتكوينه الداخلي وخوفه من مصطفى سعيد؛ نتيجة الصراع والتناقض داخل شخصية الراوي والذي يرمز للتناقض القائم في الواقع السوداني في الخمسينيات والستينيات.

ويرى البحراوي أنّ مصطفى سعيد ما هو إلا وجه من وجوه الراوي، وأنّ التناقض بينهما لا يعدو كونه تناقضًا داخليا في نفس الراوي، يمثل مصطفى سعيد أحد قطبيه. ويمثل الواقع السوداني وبالذات في القرية قطبه الآخر، وكلاهما تجسيد رمزي لما يعتمل في نفس الراوي من تناقضات بين القيم التقليدية بثباتها الممتد، والقيم الغربية بتناقضاتها القاتلة.

الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال برغم أنّه راو مشارك في الأحداث إلا أنه يُعد أيضًا المتلقي الأول للحكاية، والمتأثر بكل تفاصيلها وانعكاساتها، والصراعات التي تدور بين شخصيّاتها.