◄ مؤسس بيزا: المعلم كالجراح لن يبدع إلا بالدعم والثقة
د. سيف بن ناصر المعمري
حفلت الصحف البريطانية الأسبوع الماضي بالنقاشات حول نتائج طلبتها في اختبارات بيزا التي تجريها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كل ثلاث سنوات لتقييم أداء الطلبة في سن 15 في القراءة والرياضيات والعلوم، وتشارك في هذه الاختبارات 79 دولة؛ هذه النقاشات جاءت ليس لأنّ المملكة المتحدة كان ترتيبها في المراتب الأخيرة، فترتيبها لا يزال في مراتب متقدمة، حيث شهد تحسنا منذ 2015 حتى 2018؛ ففي القراءة احتلت المركز 14، وفي العلوم احتلت المركز 14، وفي الرياضيات احتلت المركز 18، ولكن ما آثار هذه النقاشات هو أنّ الاختبار أظهر أيضًا أنّ الشباب البريطانيين كانوا أقل رضا عن حياتهم مقارنة برضا شباب الدول المتقدمة الأخرى.
ظهرت هذه النتائج والمملكة المتحدة على أبواب انتخابات في 12 من ديسمبر الجاري؛ حيث يحاول بعض السياسيين استخدامها كأحد النقاط في كسب الناخبين؛ فالشأن التربوي لا يزال يحظى بأهمية كبيرة في الدول الأوروبية بما فيها المملكة المتحدة؛ وبالتالي يحاول هذه المقال أن يقرأ بعضا مما جاء في هذه النقاشات لأهميته الكبيرة في تفكيرنا في أنظمتنا التربوية بالوطن العربي الذي للأسف لم تنجح أي دولة فيها في احتلال مراكز متقدمة.
هذه النقاشات تلفت النظر إلى جدية الطرح والشفافية في التعامل مع النتائج التي رغم أنّها شهدت تحسنا كبيرا، إلا أنّ ذلك لم يكن مرضيا لهم لأنّ هناك دول أخرى تفوقت عليهم مثل استونيا هذه الدولة الصغيرة في بحر البلطيق؛ وما يعنيني هنا هو ما جاء في مقابلة أجريت في 6 ديسمبر مع مؤسس هذه الدرسة وهو أندروس ستشلتشر (Andreas Schleicher) الذي ذهب إلى القول أنّ الدول التي حققت نتائج مرتفعة هي التي لديها ثقة كبيرة في معلميها ومدارسها وتمارس تفتشيا ومراقبة بسيطة عليها أطلق عليها، وعزا النتيجة التي أحرزتها المملكة المتحدة إلى عدم ثقتها بالمعلمين رغم أنّه لديهم أعباء عالية، قادت إلى الاستعانة بمساعدين خلال السنوات الماضية لكن ذلك لم يقد إلى حل المشكلة.
أندروس هنا يثير إشكالية الأنظمة التعليمية التي تعمل بعدم الثقة، التي تقود إلى تقييد حرية المعلمين في عملهم، وتحد من اندفاعهم إلى القيام به بدون ضغوطات وليس من أجل إرضاء أي أحد؛ من وجهة نظره أنّ عدم الثقة خلق بيروقراطية كبيرة جدا، وقاد إلى اختراع آليات لتحقيق الضبط لمختلف جوانب النظام التعليمي، فكل شيء يتطلب التوثيق من الأعمال الصغيرة إلى الأعمال الكبيرة، الكل يعمل في دائرة لمراكمة نتائج المراقبة، ولكن لا أحد يتأمل في العواقب التي نتجت عنها، فهي خلقت نظاما تعليميا منشغلا بتلبية ما يطلب منه، بدلا من أن ينشغل بتطوير ما يجب أن يقوم به فعلا، النقطة الثانية التي أكد عليها هي أنّ هذه البيئة قادت إلى منع التعاون، وإن وجد التعاون المهني فهو يظهر بشكل سطحي جدا، من خلال تبادل المصادر أو الأنشطة فقط، ولكن لا يتم التركيز على التعاون المهني التطويري، أو العمل بالفريق الواحد بين مختلف المدرسين، وبالتالي يؤثر على نتائج الطلبة، وهذه الضريبة التي كان لابد للملكة المتحدة أن تدفعها ثمنا لذلك.
التركيز على المعلم من وجهة نظر أندروس جدا مهم فهو يؤكد أنّ المعلم الجيّد والمتميّز، والذي تطلب منه أن يحقق لك نتائج عليا عليك ألا تهينه أو تشتمه من خلال إعطائه مكافاة تقدر بـ (100) باوند أي ما يعادل خمسين ريالا عمانيا؛ أي أنك لابد أن تستثمر في المعلمين المتميزين الذين يمكن أن يحققوا لك تطورا أفضل للنظام التعليمي، وقد يكون هذا الاستثمار بعدم الضغط عليهم، وإثقالهم بمتطلبات متعددة لا تحدث إلا أثرًا سلبيا في مستوى أدائهم التدريسي، أو أنك تفرض عليهم عبئا تدريسيا وتظل تردد أنّ المعلمين لا يعملون لأنّ معدل حصصهم أقل في الوقت الذي يضطر فيه كثير منهم إلى قضاء ساعات من الإعداد والتحضير خارج وقت المدرسة وعلى حساب جوانب أخرى في حياته، لقد استمعت في اجتماع مجلس أولياء الأمور لمدرسة أسكوتلندية في شهر نوفمبر الماضي لمثل هذه الضغوطات التي يعاني منها المعلمون؛ فبعضهم يضطر أن ينصرف من المدرسة في وقت متأخر من المساء في محاولة لإنهاء الأعباء المفروضة عليه.
إنّ المسألة ليست توفير كتب ومعلمين إنما إيجاد ظروف ملائمة للعمل؛ حتى مؤسسات إعداد المعلم في المنطقة في ظل سعيها خلف الاعتماد الأكاديمي، فرض عليها متطلبات من مئات الأوراق والمؤشرات وبيروقراطية لا حدود لها في القيام بالمهام؛ أما آن الآوان أن تسأل نفسها هل بالفعل نجحت في بناء ثقافة الجودة في الممارسات وبما ينعكس على فكر الطلبة لديها؟ أم أنّ إكمال الأوراق أصبح أهم من ذلك، لأنّ الأوراق وليس الأداء هي من يحدد مستوى الجودة؟ أسئلة عميقة يثيرها ما قاله أندرسون في مقابلته وتستحق الاهتمام إن أردنا أن نغير من واقع الأنظمة التعليمية لدينا.
في الخلاصة يشبه أندرسون وضع المعلم الجيّد الذي لابد أن توفر له ظروف ملائمة للعمل حتى يبدع وتظهر النتائج التي تأملها الدول تشبيها دقيقا وبليغا جدا فهو يقول إنّه "يشبه الجراح الذي يريد التعامل مع أصعب العلميات وليس إجراء عملية الدودة الزائدة بشكل يومي، فهو لديه شغف بالصعوبات لأنّه يعلم أنه سوف يعمل في أفضل المستشفيات وسوف توفر له أفضل التقنيات، وسيكون لديه فريق رائع يمكن أن يساعده على النجاح". ولكن إن لم يتم التعامل مع المعلم سواء أثناء إعداده أو خلال خدمته على أنّه جراح، وعومل على أنّه مجرد مدرس لا يحتاج لأي شيء إلا أقلام السبورة ودفتر التحضير، وهمش ما يحتاج من دعم نفسي ومادي، ولم يحصل على الثقة التي تتيح له العمل بحرية، فأي نتائج يمكن أن يحققها هذا المعلم؟ سؤال يثيره أندرسون وهو يتكلم الآن عن المملكة المتحدة التي نتائجها لا تزال في إطار العشرين دولة الأولى، ومدارسها كما شاهدتها هنا في أسكوتلندا فيها تجهيزات لوجستية كبيرة، ماذا سيقول عن الدول الأخرى؟
إنّ إثارة هذه النقاشات في المملكة المتحدة؛ وعدم إثارتها حتى الآن في الدول العربية المشاركة في اختبارات بيزا يثير علامات الاستغراب، فالنتائج لا تزال متخلفة كثيرا عن الدول الأخرى خاصة الآسيوية أو دول أوروبا الشرقية التي استقلت منذ ما يقرب 30 عاما عن الاتحاد السوفيتي، ونجحت في تقديم أمثلة لأنظمة تعليمية متطورة؛ نريد أن نعرف ما المشكلة التي لم تنجح في قيادة طلبتنا ليكونوا في طليعة دول هذه الدراسة؟ ألا نريدهم متفوقين لكي نكون مثالا عالميا في أهم قطاع وهو قطاع التعليم؛ لأنّ القطاع المتعلق ببناء الإنسان الذي يصنع التقدم، أم أنّ الأمر ليس بتلك الأهمية إذا ما قورن بقطاعات أخرى؟