غادة السمان: لن أحبل باليأس

 

محمد علي العوض

 

هل كان زهير بن أبي سلمى يدرك أنّ النصوص تتداخل وتتعالق فيما بينها عندما أنشد قائلا:

ما أرانا نقول إلا معارا

أو معادا من لفظنا مكرورا

فكلمة "معار" بحسب "بوطاهر بوسدر" تحيل إلى مفهوم التناص، وتدل على أنّ زهير صرّح بأنّ الشاعر ربما يأخذ من شعر غيره ويفيد منه. ويذهب إلى القول بأنّ التداخل النصي أو مصطلح "التناص" أكّده النقاد العرب قديما عندما قال أبو هلال العسكري في كتاب "الصناعتين" أنّه (ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممّن تقدمهم، والصبّ على قوالب من سبقهم).

وبرغم أنّ العرب القدامى لم يطلقوا مصطلح "التناص" على هكذا نوع من أنواع "التداخل النصي" إلا أنّهم سمّوه بأسماء عدة من بينها: "التضمين، والتلميح، والإشارة، والاقتباس".

وشابههم في ذلك "باختین" حين أشار في كتاباته إلى ظاهرة "التناصّ" دون أن يقول بالمصطلح صراحة بل أشار إليه تحت مسمى "المبدأ الحواري".. وهو أول من بلور مصطلح "التناص" حديثا كمفهوم يدل على علاقة تحدث بين النصوص بكيفيات وأساليب مختلفة؛ وتبعته جوليا كريستيفا التي قعّدت المصطلح.

عربيا؛ يعد التناص من الموضوعات الحديثة في الكتابات النقدية العربية، ولم يتفق النقاد على توحيد المصطلح، فالغذامي مثلا يترجمه إلى "تداخل النصوص وتارة أخرى "النصوصيّة"، وعند محمد بنيس هو "النص الغائب"، بينما يسميه محمد مفتاح -الذي نظّر للتناص كثيرا- بـ "الحوارية" وتناوله في كتاب "تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص" وكتاب "دينامية النص" و"المفاهيم معالم" كما عرّفه اعتمادا على أطروحات كريستيفا وبارت وجينيت بأنّه – أي التناص-

"هو تعالق (الدخول في علاقة) مع نص حدث بكيفيات مختلفة". وعرفه في موضع آخر بأنه " فسیفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنیات مختلفة".

والتناص عند توفيق الزيدي هو "تضمين نص في نص آخر" وعند الغذامي "نص يتسرب إلى داخل نص آخر، يجسد المدلولات سواء وعي الكاتب بذلك أم لم يع".

أكثر الشعر الحداثوي العربي من استخدام تقنية وظاهرة التناصّ، حتى عدّ واحدا من أبرز سمات بنية الشعر العربي الحديث..

وقد أفاد الشعراء من أقسامه المختلفة من تناصّ موافق وتناصّ مضاد، وتناصّ مجزوء وغيره، ووظفوه في شعرهم إمّا شكلا أو مضمونا.

من هؤلاء غادة السمان حين استدعت النص المقدس في نصوصها وحاولت الاستفادة من لغته العالية وذروة بيانه ومزج ذلك بنسيج خطابها الشعري لترتقي بنية نصوصها من البنية السطحية إلى البنية الدلالية العميقة، وتوسيع فضاء المعنى في نصوصها الشعرية؛ فاستحضار الخطاب الديني في الخطاب الشعري المعاصر، يمنح النص مصداقية انطلاقا من مصداقية الخطاب القرآني نفسه.

لذا شكّل النص القرآني مكوّنا جوهريا في أشعار غادة السمان، واستخدمت تقنية "التناص الديني" في شكل ملفوظات مفردة، وجمل تركيبيّة، ودلالات القصة القرآنية وشخصيّاتها.

فمثلا من زاوية التناص مع المفردة القرآنية تقول غادة السمان:

لن تغفر لك الأسماك

انحيازك إلى البركة الآسنة

نكاية بالبحر..

حيث وظفت الشاعرة هنا مفردة "الآسن" التي وردت في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه).. لتصل إلى دلالة ذم اختيار الجانب الأدنى، وألا مقارنة بين البركة الآسنة والبحار الكبيرة الزاخرة بكل ما فيها من خير وكنوز.

وفي قصيدة (بومة عاشقة في ليل الحبر) تقول:

 مرة هددتني جدتي بـ"لقمة الزقوم" إذا كذبت..

ومن يومها وأنا أقول الصدق في حضرة الورقة المقدسة..

وقد وظفت الشاعرة لفظة "الزقوم" القرآنية لتضفي دلالة على القصيدة، ولتذم الكذب كإثم عظيم وضلال، وهذا يمثل تناصا مع قوله تعالى: "ثمّ إنّكم أيّها الضّالّون المكذّبون لآكلون من شجر من زقّوم" وقوله تعالى في آية أخرى: "إنّ شجرة الزّقّوم طعام الأثيم".

 

ونلمح جانبًا من كيفية توظيف التراكيب القرآنية في قصيدة "أشهد على كيدك العظيم" والتي تقول فيها:

النسيان وحده يا سيدي

سيطلق سراحي من كيدك العظيم..!

ويحيلنا تركيب "كيدك العظيم" إلى قوله تعالى في سورة يوسف: "فلمّا رأى قميصه قدّ من دبر قال إنّه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم".

وحين تكتب في قصيدة "أحبك أكثر من ذنوبي":

وتقول شفتاك للفرح: كن

فيكون!..

فالشاعرة تستدل على نفسها بأنّها تؤمن بقدرة الله وتحكمه في الكون، وتدين له بالخلق والربوبية، وهذا يتناص مع قوله تعالى: "إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون".

وحين تقول في قصيدة "وأعطنا حبنا كفاف يومنا":

واستوطنت تحت جلدك

وصار نبضك ضربات قلبي

ولم أعد أميز بين الخيط الأبيض والأسود!

فإنّها تتناص مع التركيب القرآني ".. حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود..".

 

كما تتناص ضمنيا أبياتها:

شاهدت رجلا يأكل لحم أخيه ليلا

ويترأس جمعية "النباتيين" نهارا

مع قوله تعالى: "...أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه.."

وتوظف الشاعرة مفردة راودتني في عدد من قصائدها، ففي قصيدة "الأبدية لحظة ذكرى" تقول:

قبل أن أنام، راودتني الورقة عن نفسي".

 

وفي قصيدة "حدث في جنازتي" تقول:

 تراودني مدينتك عن نفسها،

تقول لي: عودي إلى أحضاني..

 

وذات المفردة نلمحها في قصيدة "أشهد بفرح عرفته":

سأمضي إلى البحر كأنني استحم

لكنني وحدي أعرف أنني ذاهبة إلى القاع

لأبحر وحيدة في المياه المظلمة

وسأقفز إليها في منارة القارات

المتوجة بالأضواء...

بينما الموت يراودني عن نفسي..

واستسلم لحبه.

وتتناص هذه المفردة مع قوله تعالى: (.. قال هي راودتني عن نفسي...).

 

 

وتوظف أيضا تركيب "قضى وطره" الواردة في قوله تعالى: "... فلما قضى زيد منها وطرا.." في قصيدة "حمل افتراضي":

لقد قضى الحزن وطره مني،

لكنني لن أحبل باليأس"