"أنا وأنت"

 

جابر العماني

هُناك منهجان مختلفان في عالم الحياة: المنهج الأول يُعرف بما يسمى "أنا فقط"، وهو منهج الغرور والتكبُّر والاستبداد والاستعلاء بالرأي، وعدم الاستماع والإنصات للآخر، لا بل يُحبِّذ إقصاءه من الوجود، ويدعو إلى عدم الاعتراف به وبرأيه وفكره؛ فهذا المنهج غالباً ما يقود الإنسان للاختلاف الفكري، بل ويجعل من المجتمع مجتمعاً متفرقاً متشرذماً لا طعم للراحة والاستقرار فيه، وهذا ما نبَّه إلى عظيم خطره أمير الكلام وسيّد البيان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما قال: "من استبد برأيه هلك".

أما المنهج الثاني، فيسمى "أنا وأنت"، وهو المنهج الناجح على الدوام، والذي شجع عليه الإسلام الحنيف، فقد يكون في كثير من الأحيان رأيي الذي أقدمه لك صائباً ولكنه يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ ولكنه يحتمل الصواب، -فأنا وأنت- يعني الحوار الجاد والهادئ بيننا، أنا وأنت أستطيع أن أُنبهك وتُنبهني، أنا وأنت أستطيع أن أُحبك وتُحبني، أنا وأنت نحترم بعضنا البعض، أنا وأنت نستفيد من تجاربنا وخبراتنا في الحياة، وهذا كله ما أكد عليه القرآن الكريم، وجعله أمراً مهمًّا لاستمرار الحياة الناجحة والتميز فيها، فقال تبارك وتعالى: "وشاورهم في الأمر"، وقال: "وأمرهم شورى بينهم". فمنهج "أنا وأنت" هو منهج ودليل للتواصل الاجتماعي السليم عبر الأفكار والأطروحات الإيجابية التي من خلالها يستطيع الإنسان بناء وتشييد المجتمع، كما فعل نبي هذه الأمة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء من قبله الذين جاؤوا إلى أقوامهم ليشاركوهم أفراحهم وأحزانهم، وما أعظمه من درس قرآني يُرشدنا الى الكمال والرشاد؛ بهدف التقرُّب من بعضنا البعض من أجل بناء مجتمع ناجح ومحافظ على قيمه وتقاليده وأخلاقه.

فالمنهج الوحيد الذي يستطيع الإنسان من خلاله القضاء على الاختلاف والإقصاء الجمعي، هو ترسيخ ثقافة "أنا وأنت"؛ لذا ينبغي الحفاظ على هذا المنهج، والتركيز على حفظه من الاندثار. يقول الباري تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، وهذا يعني أنَّ على الإنسان أن يتقرب دائماً من الإنسان الآخر، وأن يعلم جيداً أن الرأي الاستعلائي المستبد لا يستطيع من خلاله أن يقرر مصيره في الحياة، ومن أجل أن يكمل الإنسان مسيرته العلمية والعملية في عالم الحياة بالشكل السليم والمتكامل، لا بدّ له أن يؤمن جيداً بالرأي الجمعي الناتج عن الاستشارة والحوار والمشاركة مع الجميع؛ فالإنسان عندما لا يرى من الدنيا إلَّا رأيه فقط فهو حتماً سيبقى وحيداً فريداً لا يحترمه الناس ولا يقدرونه ولا يستمعون إليه، بل على العكس فهو لن يجد من الناس إلّا النفور والابتعاد وعدم الرضا، فهو بأسلوبه هذا هالك وإن كان يمشي بين الناس.

ومن أجل حماية المجتمع من الاستبداد بالرأي ومحو ثقافة "الأنا فقط" لا بدّ من تطبيق الآتي:

* نشر الوعي بين الناس وبثّه على جميع المستويات؛ شريطة أن يكون لكل مستوى اللغة التي تناسبه والطريقة التي يتأقلم معها.

* الحثّ على أهمية التواضع لما له من دور فعّال في تربية الإنسان بأهمية احترام وتقدير الغير، ومعرفة أن السعادة الحقيقية تكمن في التواضع وليس في ثقافة الأنا فقط.

تَوَاضَع تكُن كالنجم لاح لناظـر على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجوّ وهو وضيع

* الالتزام بالدين؛ فهو بحد ذاته علاج لكثير من الأمراض النفسية التي قد تُصيب الإنسان وتوقعه في مستنقعات الغرور والتكبُّر.

أخيراً وليس آخراً.. إنَّ احترام ثقافة القيم والمبادئ الإسلامية والإنسانية التي تنص على الشراكة الفكرية والاجتماعية، عبر الحوار والاستشارة واحترام الرأي والرأي الآخر؛ لهي من أهم الأمور التي ينبغي اتباعها والتركيز عليها اجتماعيًّا؛ وذلك لكي يتسنَّى للجميع الوصول إلى رضا الخالق تبارك وتعالى من أجل تحقيق الأطروحة السماوية التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى لعباده، والتي منها وحدة الرأي والكلمة بين أفراد المجتمع الواحد؛ فهي من المهام الرئيسة لاتحاد المجتمع وتكاتفه، وهو بالتالي يستطيع أن يتحد أكثر برأيه وقوة كلمته التي من خلالها يمكنه قمع الفتن التي دارت وتدور من أجل تمزيق النسيج الاجتماعي ونشر الفوضى في المجتمع، فما أجمل أن نسير على المنهج الرباني المسمى "أنا وأنت"، وأن نبتعد عن المنهج الشيطاني المسمى "أنا فقط".