إضمار سردي

 

 

محمد علي العوض

أجمع المسلمون والمستشرقون معًا على أنّ أصدق وثيقة تاريخية على الإطلاق هي القرآن الكريم؛ فقد استطاع كتاب المسلمين كما يقول علاء الدين شمس الدين في كتابه "الظاهرة القرآنية والعقل" أن يحافظ على مضمونه، ونصّه وكلماته دون تحريف أو أدنى تغيير طوال أربعة عشر قرناً كاملة؛ بخلاق الكتب المقدسة الأخرى وكتب الأديان الوضعيّة التي جرى عليها الكثير.

لذا لا غرابة في أن تستشعر وأنت تقرأ آيات سجود الملائكة لآدم، وطوفان نوح، وسيرة عاد وثمود أنّ القرآن الكريم يستدعي الحدث التاريخي وشخوصه وأحيانا أخرى حيّزه المكاني من بين فجوات الزمن الغابرة؛ ليعيد عرضه من جديد ويبعث فيه الحياة بأسلوب القصّة والحكاية. والتي بدورها تختلف عن القص الإنساني وتتفوق عليه بمراحل فهي "أحسن القصص" ، "ومن أصدق من الله حديثا"، ولا تشابه في أهدافها المحكيات البشرية؛ فهي لا تأتي بقصد عرض النواحي الفنية أو تحقيق المتعة التي تتوافر لديك وأنت تطالع خطابا سرديًا إنسانيا أو رواية كاتب ما؛ وإنما سرد ربّاني مقاصده الرئيسة هي خدمة أهداف الدعوة المحمدية، وإرشاد المتلقي لسبل الفلاح ونهيه عن سلك طرق الرذيلة والضلال، وتبيين أحكام ربّ العباد. بجانب تبليغ الرسالة عبر الاطلاع على أخبار القرون الماضية والاتعاظ بها؛ وتعريف البشر بأنبيائهم السابقين ورجالهم الصالحين، وتسليط الضوء على طغاة الأرض من الأمم السالفة.

يتميز القرآن بألوان بيانية مختلفة وأساليب عرض متعددة من بينها أسلوب وتقنية الإضمار أو ما يُعرف بالإضمار السردي أو السرد المضمر القائم على بلاغة الحذف والإيجاز. فالإضمار هو جزء محذوف من نص القصّة، لتسريع حركة السرد، ويمكن وصفه بأنه "تقنية زمنية تقضي إسقاط فترة طويلة أو قصيرة من زمن القصّة وعدم التطرّق إلى ما جرى فيها من وقائع وأحداث" وبحسب تودوروف فإنّ الأمر يتعلّق بالحذف أو الإخفاء كلّما كانت هناك وحدة من زمن القصّة لا تقابلها أيّة وحدة من زمن الحكاية"..

ويأتي الإضمار أحيانًا على شكل وحدات سردية ومشاهد محذوفة شريطة أن تكون هناك لفظة أو جملة ظاهرة دالة على تلك المشاهد المحذوفة، وهذا في القصة القرآنية كثير؛ فبإمكان كلمة واحدة أن تختزل جملة من المشاهد السردية وحركة الشخوص فيها فكلمة (تذودان) الواردة في قوله تعالى: "ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" تجعلك تتخيل حركة الفتاتين ومكافحتهما في سبيل ألا تختلط أغنامهما بأغنام قوم آخرين ظلمة لا يملكون رحمة ولا مروءة بدليل قولهما: "لا نسقي حتى يصدر الرعاء" كما تشعرك بما يعتمل في دواخلهما من انفعال ولهاث بسبب حركة الأغنام وانفلاتها من أجل إرواء ظمأها دون حسبان العواقب والمكان وما فيه من قوم ظالمين، وبالتالي تتعاظم مسؤولية العاقل "الفتاتان" أمام غير العاقل "البهيمة".. كل ذلك لخصه القرآن الكريم في كلمة واحدة هو "تذودان" وهذا الحدث هو ما جعل سيدنا موسى ينتبه إليهما.

ويحدث أن ترد القصة في القرآن بدون تأطير الأحداث زمانيا ومكانيا وبدون ذكر أسماء الشخصيات وصفاتها كما في قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى...) فقد سكت القرآن هنا عن ذكر اسم الرجل كما سكت إضمارًا عن بعض الأحداث في القصة. فقد ذكر الطبري أنّ الآية تتحدث عن رجل اسمه "حبيب" من أهل كان يسكن في الجانب القصي من مدينة "أنطاكية"، وكان مصابا بالجذام، إلا أنّه كان مؤمنًا بالله، يتصدق على الناس بنصف مكسبه اليومي من نسج الحرير.. وتقول كتب التفسير معناه أنّه لما أجمع قوم الرجل على قتل الرسل الثلاثة الذين ذكرتهم آية "إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما فعزّزنَا بثالث فقالوا إنّا إليكم مُرسلون" سمع "حبيب" بذلك، فجاء قادمًا من أقصى المدينة ينهاهم عن قتل الرسل ويذكرهم بالله وعذابه وأنه مؤمن أيضًا، فلما سمعوا ذلك منه وثبوا عليه فقتلوه. وقد أضمرت الآيات مشاهد ردود المعتدين عليه بينما أظهرت ردودهم على الرسل وكيفية قتلهم عبر آية " قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" كما حدث إضمار سردي لمشاهد الوثب على حبيب وقتله؛ فآية " قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ..." تخبرنا بأنّ حبيبا لاقى نفس مصير الرسل وجزاه الله بالجنة.

ومن ذلك أيضا قصّة أصحاب الأخدود التي تختزلها سورة البروج المكونة من 22 آية في ثلاث آيات فقط (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ) فالسورة لم تحدثنا عن شخصيات القصة وماهيتها ولا الزمان والمكان اللذين جرت فيهما الأحداث ولا عن اسم الملك الذي أحرقهم. فالغرض هنا ليس ذكر تفاصيل القصة بل تبشير المؤمنين بالجنة وتبيين الويل والثبور للظالمين الذي توعدهم الخالق عز وجل بالبطش الشديد.

وفي سورة الكهف حينما قال الرحمن: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) لم يذكر كنه ومسمى الشخص الذي أرسلوه، ولم يبين اسم المدينة ومكانها، كما تم إضمار الحديث الذي دار بين الشخص المرسل لجلب الطعام والتاجر والذي عرف أمرهم من خلال استنكار الدراهم، كما لم تذكر الآيات قصة حمل "المرسال" إلى الملك وزيارته أصحاب الكهف فقد اختزلت الآيات كل هذه التفاصيل إضمارًا ولم نعلم بها إلا بدلالة آية (وكذلك أَعثرنا عليهم ليعلموا أَنّ وعد اللَّه حقّ وأنّ السّاعة لا ريْب فيها...).

وفي قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) يقابلنا نموذج آخر للسرد الإضماري؛ فكلمة (حنيذ) دالة على مشاهد كثيرة مضمرة وهي مشهد دعوة إبراهيم للضيوف بحضور مأدبة الطعام، وكذلك مشاهد ذبح العجل وطهوه لإطعام الضيوف.