حوار مع الشاعر والمسرحي عبد الرزّاق الربيعي

 

حاورته: إخلاص الزكوانيّة| مسقط

 

  1. المسار المسرحي العُمانيّ فاعل ولكن  يحتاج جهدا أكبر.
  2. قصيدة النثر أشبه بالسير في صحراء فمساراتها مجهولة للقارئ.
  3. لا يهمني قالب القصيدة الذي كتبت به، بل مدى التأثير الذي أحدثته.
  4. الشعر الحديث هو الأقرب لنا في مختلف مجالاته وقالبه المكتوب.
  5. الشاعر يبقى سندبادا يتنقل بين المدن  بحثا عن مصادر إلهام جديدة.
  6. الكتابة مسؤولية كبرى وأمانة ولكل شاعر منهج يسلكه.

***

 

"بماذا يعود الغريب إذا عاد من ليله السرمدي؟/ بمقبرة في الضمير؟/ بتذكرة للعبور/ إلى الآخرة؟/ بأفق صغير يعلقه/ قرب دمعة جدته/ في جدار الخرافات؟/ بماذا يعود؟".. بماذا يعود الإنسان الغريب حينما تقذفه موانئ القصيدة بين مرفئ وآخر في جزر الكلمات؟ بماذا يعود شاعر مرتبك حمل على عاتقه كتابة أوجاع الغربة، وغياب غير مرتقب ليمكث بعيدا عن وطن عاش فيه ملحمة الحب والحرب معا؟ وبين الحنين وأوجاعه حقبة سجلتها ذاكرته ليخلد سجلات حافلة لنضال شاعر ربما سندباد متنقل بين الأمصار ليستقر على أطراف القصيدة تارة وفي خشبة المسرح كانت له شواهد عميقة ينساب منها واقعا كان بطله يقف متفرجا من بعيد ممسكا بجرف الحرف. يقول رينيه شار: "إننا نخضع أحرارًا لسطوة القصائد ونحبها بعنف، وهذه الثنائية تمدنا بالقلق والكبرياء والبهجة عندما نقرأ ما كتبه الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي خلال مسيرته الأدبية لنقف بين يدي هذا الزخم الشعري والمسرحي الكبير, ولنأخذ بين أطراف الحديث ما قد يثير الشجون.

 

س: بما أن  قصيدة النثر حازت على انتشار واسع، ولك باع معها، كيف تراها اليوم، ونحن نرى هناك نزوعا لدى الشباب للعودة للقصيدة المكتوبة  على النمط التقليدي؟

 ج: أكتب  في الألوان الشعرية الثلاثة: النثر والتفعيلة والقصيدة العمودية. أنا شخصيا لا يهمني قالب القصيدة الذي كتبت  به، بل مدى التأثير الذي أحدثته من نفس القارئ، وطبعا قصيدة النثر منجز كبير من منجزات الشعر الحديث، فالشاعر عندما يكتبها يحلق في فضاءات واسعة ودائما يفاجئك بشيء غير مألوف ومبهر فلا يوجد تصور مسبق لدى القارئ عن النص من أين يبتدئ وأين ينتهي!

فإذا كانت القصيدة العمودية أشبه بالسير على سكة مرسومة الخطوط  فقصيدة النثر أشبه بالسير في صحراء فمساراتها مجهولة بالنسبة للقارئ مما يجعل مخيلته مثارة دائما واسئلته لا تنتهي، فكاتبها وحده من يعرف غاية البدء ومنتهى الوصول، لذلك هي من أصعب الأشكال الشعرية بناء وفهما لمن يستصعبها وسلسة لمن يجد أنه متعمقا فيها متخيلا صورها. وهناك وفرة في القصيدة النثرية الآن ولكن  الجيد منها قليل، وينطبق هذا على بقية الأشكال، فالإبداع يبقى قليلا في كل العصور!

 

***

 

س: هل تأتي القصيدة دفعة واحدة؟ أم يتشكّل النص الشعري على دفعات؟

ج: لكل شاعر طريقته في الكتابة، فالشعر صناعة لا يتقنها إلا من اعتاد على نهج معين وبنى عليه فيما بعد, فالبعض يكتب النص الشعري ولا يعود إليه ليغير ألفاظه أو يضيف عليه ، في الجانب الآخر نجد من يراجع النص ويدققه ويمحص ألفاظه، وأستحضر هنا مقولة للشاعر بدر شاكر السياب سمعتها من الأستاذ الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد هي" أن وظيفة الشاعر تبدأ بعد انتهائه من القصيدة"، فالشاعر أقرب ما يكون إلى صياد حينما يلقي شبكته في البحر ويستخرجها فيجد الجواهر المبتغاة فيبقيها، والزوائد التي لا تعنيه  فيرميها،و هذه الطريقة هي التي أنهجها في الكتابة بشكل عام فأجدني أكتب نصا وأعود إليه بعد مدة فأشذبه وأعيد صياغة بعض جمله بالتقديم والتأخير والحذف والإضافة، إلى أن يصلني إحساس استقراره، فالكتابة عندي صنفان الكتابة الأولية وهي كتابة الشاعر نفسه والكتابة بعد تمحيص النص وهي كتابة ناقد النص، كما أن للخبرة والذائقة الشعرية دور كبير في ذلك. النقاد القدامى قالوا: " إن جرير يغرف من  بحر والفرزدق ينحت من صخر وهذه إشارة واضحة على أن لكل شاعر منهج يسلكه في الكتابة.

***

 

س: أخبرنا عن منشأ القصيدة ... كيف يكون مخاضها؟ وهل للإلهام دور في ذلك؟

ج: الإلهام هو الحافز الأساسي للكتابة فقد يأتي من صورة أو موقف معين يثير انتباهك ويشغل فكرك فتنساب منه الألفاظ والجمل برويه، وما يتبع ذلك فهو يعتمد على ثقافة الشاعر وقدراته اللغوية على التركيب وبناء القصيدة، فمنشأ القصيدة بالنسبة لي هي اللحظة التي أرى نفسي فيها منكمشة بفعل  موقف أو ذكرى معينة ربما مشهد عبر في مخيلتي أو حتى رائحة عطر، فأنقطع عما حولي، وأبني على ذلك ألفاظا وصور أو تشبيهات, فالبدايات دائما تجسدها اللحظات الغامضة التي لا أجد لها تفسيرا, رغم رحلتي الطويلة فللحظة المناسبة  تأتي كما كتب لها وأحيانا أدون جملة أو بيتا شعريا وابقيها وأعود إليها بعد فتره وأجد أنا هذه الجملة تحولت إلى نص شعري وبعد نضوجه أخرجه من فرني الشعري وأدعه جانبا، وبعد أن أنساه أعود إليه ثانية لأقرأه بحس الناقد والمتذوق لا بحس الشاعر الذي كتبه، فإذا أعجبني، أنشره، وإن لم يعجبني أشتغل عليه مجددا حتى أقتنع به بشكل كامل.

***

 

س: الشعر المعاصر هل ينافس شعر العصور السابقة بكل مكوناته ومعانيه, وأين يتجسد ذلك؟

ج: العملية هنا ليست منافسة، كما يعتقد البعض. الانحياز  دائما يكون للإبداع سواء كتب بالطريقة الكلاسيكية أو بالشكل الحديث، ولكننا بطبيعة الحال الآن نميل إلى الشعر الحديث كونه يناقش قضايانا ويقترب من همومنا، فنجد في  هذه النصوص صدى رحبا لما نفكر به ونعاني منه، بينما في الشعر القديم قد لا نجد هذا متوفرا إلا في الخالدة  منها ولا ننسى اللغة والأماكن التي كتبت فيها تلك القصائد فلم تعد موجودة اليوم والإحساس بها بعيد إلى حد ما. الشعر الحديث هو الأقرب لنا في مختلف مجالاته وقالبه المكتوب.

***

 

س: بحسب تجربتك العراقية العمانية، كيف توازن بين التجربتين؟

لكل تجربة شعرية عربية خصوصيتها وظروف نشأتها. فالقصيدة العمانية معروف عنها أصالتها وعمقها الحضاري، فهي متمسكة بإرث شعري ضخم. أما القصيدة العراقية ، فقد انفتحت على الحداثة بوقت أسبق من القصيدة العمانية، فالحداثة الشعرية أساس منشأها عراقي ، وجاء على يد العديد من الشعراء منهم: بدر شاكر السياب والبياتي ونازك الملائكة في أواخر الأربعينيات، أما قصيدة التفعيلة في الشعر العماني ظهرت في منتصف السبعينيات على يد الأستاذ سعيد الصقلاوي وذياب صخر العامري، وهلال العامري ود.سعيدة خاطر، وغيرهم. من هذا المنطلق نجد أن لكل تجربة خصوصيتها وما يميزها فقصيدة النثر وجدت طريقها مبكرا، وأثبتت بذلك حضورها في الساحة الشعرية العمانية من خلال ما كتب الشاعر الكبير سيف الرحبي وزاهر الغافري وسما ء عيسى ومحمد الحارثي، وصالح العامري، تجارب شعرية آخرى ظهرت على الساحة سجّلت  لها حضورا كتجربة الشاعر حسن المطروشي، ومن الشاعرات شميسة النعماني.

***

 

س: القصيدة الأقرب لذاتك الشعرية وهل كانت محض خيال؟ أم انعكاس لواقع عشته وكتبت صداه؟

ج: تقريبا كل القصائد كانت قريبة من نفسي إلى حد كبير، فهي فيض من ذاتي، ولكن  أقربها إلى قلبي قصيدة "بماذا يعود الغريب". والتجربة الواقعية، كما قلنا سابقا محفز مهم للكتابة الشعرية، ولكن لا ينبغي أن يطغى بل نكتفي بشظيّة من الواقع، ثم يدخل عنصر الخيال والعناصر الفنية المكملة، فأنا لا أكتب نصا من محض خيال، فهناك دائما محرض  من الواقع يحفزني للبدء في الكتابة ويحرك مخيلتي في الوقت  نفسه، فالعملية هنا تقوم  على المزاوجة بين الواقع،  والخيال بنسب مقبولة نوعا ما. وعن حبي الشديد لهذه القصيدة بالذات يعود ذلك إلى المرحلة التي كتبت فيها، وذلك  عام 2003م فالتغيرات التي حصلت في العراق وعودة العراقيين إلى بغداد  طرحت عليّ سؤال العودة، واستئناف الحياة ، ومحاولة التكيف مع  الواقع والحياة  الجديدة، شعرت وقتها أن كل الأشياء هناك لم تكن كسابق عهدها، من هنا حسمت أمري وواصلت مكوثي في السلطنة، وساعدني على هذا المكوث تفاعلي مع الوسط الشعري وتفاصيله' وصار جزء امني وصرت كذلك جزءا  منه.

***

 

س: رؤيتك للنشاط المسرحي العماني وابعاده اليوم، هل ما زالت مساراته مألوفة ؟ أم أنها خرجت عن العادة؟

ج: بالنسبة للمسرح العماني هنالك حماس شديد ورغبة حقيقية للشباب من أجل دفع  الحراك المسرحي للأمام واثبات الذات بالرغم من عدم وجود معاهد للتأهيل  الأكاديمي، لكن نجد الشباب هنا يحاولون دائما أن يستثمرون المشاركات الخارجية في الاحتكاك والاقتراب من التجارب العربية والعالمية والاستفادة منها بتبادل الخبرات مع المتخصصين والمشاركة في الورش الفنية التي تقام لصقل المواهب فالموهبة وحدها لا تكفي في المسرح وفي غيره. وهذا الجانب أجده واضحا في التجربة العمانية هنالك شباب يمتلكون قدرات عالية في الكتابة المسرحية وفي الإخراج والأداء وحصدوا على جوائز عديدة خليجية ودولية وهذا يؤكد أن المسار المسرحي العماني فاعل  ولكن  يحتاج جهدا أكبر.

***

 

س: ما الذي ينقص الخشبة  العمانية  لتكون في المقدمة مقارنة في التجارب المسرحية العربية والدولية أيضا؟

ج: قبل ذلك لنتكلم عن المنجز المسرحي الذي حققه المسرحيون العمانيون، وهو منجز يستحق التقدير، وقد توّج بجوائز في الكتابة كالتي حققها الكاتب عماد الشنفري وبدر الحمداني، وآمنة الربيع، وفي الإخراج وجائزة الشارقة التي نالها المخرج يوسف البلوشي في مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، لافضل عرض متكامل، وجوائز السينوغرافيا، والتمثيل التي نالتها فرقة مسرح هواة الخشبة في مهرجان الناظور الدولي عن عرض" بنت الصياد" وجوائز اخرى حصدتها مسرحية "حمران العيون" على مستوى خليجي، ودولي  تجعلنا نشعر بالفخر، أما عن الذي ينقصها التأهيل الأكاديمي والدراسة النظرية لفن المسرح وأساسياته، أذكر أنه فيما مضى كان هنالك قسم متخصص في المسرح ولكن أغلق فيما بعد. ايضا يجب الاهتمام بالورش التخصصية وتأهيل الشباب الصاعد من خلال التدريب والمران المستمر وإتاحة الفرصة للشغوفين والمهتمين للمشاركة في مختلف المحافل والمسابقات المسرحية العربية والدولية منها، لتقديم صورة تليق بالمسرح العماني الحديث ومحاولة إثبات وجوده وخصوصيته الفنية والثقافية. والدعم المادي مهم جدا وينبغي توفره، فالوقوف على الخشبة يتطلب الكثير من الأدوات التي تصرف على الديكورات، والملابس واكسسوارات العروض، والسفر ووو.....

***

 

س: لقّبت بالسندباد لكثرت ترحالك هنا وهناك, السفر هل كان متنفسا لك؟ وهل وجدت به ضالتك؟ أم أنك ما زلت تبحث عنها؟

ج: الشاعر في حالة سفر دائم، كون "الخيال زاده"، وروحه تواقة للبحث عن مصادر إلهام، وينابيع جديدة، وكلنا نعرف الفوائد الجمة التي يحصل عليها المسافر، في انتقاله من مكان إلى آخر، والاستزادة من تجارب الحياة وزيارة الأماكن الطبيعية المدهشة، والبحث عن مصادر تلهم الشاعر، فمنذ الصغر أحببت السفر منذ الطفولة، وكنت احرص على المشاركة في الرحلات المدرسية، وغالبا ما كنّا نتّجه نحو الأماكن الأثرية في بغداد كطاق كسرى، والمتحف العراقي، ونذهب أبعد قليلا الى بحيرة الحبانية والرزازة، خارجها، وكنا نزور آثار مدينة بابل التاريخية، وملوية سامراء، ومن ثم التنقل أختلف قليلا، فبدأت أتّجه إلى شمال العراق المعروف بجباله الشاهقة، وطبيعته البكر، واتّجه للجنوب حيث البصرة، وميسان التي تنحدر أسرتي منها والناصرية الغنية بالأهوار والمستنقعات المائية، وجمال الطبيعة، وبعد سفري خروجي من العراق، بدأت أتنقل من مكان إلى آخر، والآن أسافر بحكم الدعوات التي تصلني من المهرجانات الأدبية والمحافل الشعرية والندوات والملتقيات المسرحية، وهذه الرحلات تضيف وتمكّنني من الالتقاء بالكثير من الشعراء، وتبادل المعارف، والكتب، وخلاصة القول إن الشاعر يبقى سندبادا يتنقل بين المدن  بحثا عن مصادر إلهام جديدة، والشاعر العربي يقول: "إني رأيت وقوف الماء يفسده".

***

 

س: رسائل الشعراء والمبدعين  أمثالكم كنز عظيم، وتراث إنساني عميق،  فما النصيحة التي تهديها لكل  الشعراء والكتاب؟

ج: الكتابة مسؤولية كبرى، ورسالة علينا حملها بكل أمانة

 

تعليق عبر الفيس بوك