الأسبوع الأول لطفلة عمانية في مدرسة أسكتلندية

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

 

في الأسبوع الماضي التحقت ابنتي الصغيرة بمدرسة ابتدائية بمدينة جلاسجو الأسكتلندية؛ وقدّمت لي فرصة كبيرة لاكتشاف حالة التعليم في مكان آخر من العالم؛ خاصة خلال هذه الفترة التي يشعر فيها الجميع بحيرة أمام سؤال كبير وهو: ما أنسب مدرسة أعلم فيها أبنائي.. هل أظل بمدرسة حكومية أم أتجه لمدرسة خاصة؟ أم أترك هذين الخيارين وأذهب إلى مدرسة دولية؟.

في الواقع ليس من السهل إيجاد إجابة مريحة عن هذا السؤال، حتى لنا نحن المشتغلين بحقل التربية ومناهجها؛ ولذا كان التحاق ابنتي الصغيرة بهذه المدرسة بوابة لقراءة الفوارق في فلسفة التعليم بيننا وبينهم؛ وما أذكره هنا ربما عرفه كثير من المبتعثين الذين ذهب أولادهم إلى هذه المدارس، ورغم أنني عشت في هذه الدولة لفترة من الزمن خلال دراستي للدكتوراه إلا أنّ أبنائي وقتها كانوا صغارا ولم أتمكن من الاحتكاك بممارسات النظام المدرسي، وهي ممارسات قد تبدو مهمة لنا خاصة في ظل ما صاحب بداية العام الدراسي من مناقشات مستفيضة حول قضايا كثيرة مثل ثقل الحقيبة المدرسية، والمناهج، والبيئة المدرسية، والتغذية، وارتفاع أسعار الزي المدرسي؛ خاصة لمن يلتحقون بالمدارس الخاصة والدولية، وسوف أسرد في هذا المقال ملاحظات أولية تتعلق بالبداية فقط وليس كامل جوانب النظام التعليمي لهذه المدرسة؛ ولكنها تقدم لنا مؤشرات علي طبيعة المنهج التعليمي في هذه المدرسة، وسوف أوجز ملاحظاتي كالتالي:

كان الزي المدرسي متاحا لدى شركة يتم التواصل معها بشكل إلكتروني، وبعض منه متاح في علامات تجارية مرموقة تقدمه بجودة عالية وبسعر مناسب جدا لا يمكن أن يقارن بما يتم بيعه للطلبة عندنا خاصة في المدارس الدولية التي تغالي في ذلك حتى وإن كانت الخامات لا تستحق ذلك؛ في مؤشر على عدم الاكتراث للزبائن من طلبة وأولياء أمور، وهي نقطة لابد من أن يلتفت إليها كل الذين يمضون إلى هذه المدارس من أجل حماية حقوقهم وأبنائهم.

ظهر من الوهلة الأولى أنّ الحقيبة المدرسية الثقيلة التي لا تزال تشغل النّاس معنا طوال هذه العقود لا وجود لها، كما لا وجود للكتب، وكذلك الدفاتر والأقلام الكثيرة التي تثقل كاهل الأسر خاصة التي لديها عدد كبير من الأطفال، كل ما يحمله الطفل في حقيبته هو عبارة عن وجبة إفطار خفيفة، وقلمي رصاص، والقصة التي يحملها إلى البيت في بعض الأيام، مما يعطي مؤشرا على نقل الثقل من المواد الدراسية المختلفة إلى الاهتمام بالطفل وتربيته ونموه.

في اليوم الأول استقبلت ابنتي من قبل المعلمة الأولى، بطريقة تنزع رهبة الذهاب إلى مدرسة جديدة، حيث عملت على فتح حوار معها فيه كثير من المزاح، وقبل أن تدخلها إلى زملائها في الفصل طلبت منهم الترحيب بها بعبارة "نحن سعيدين بلقائك"، ومن ثمّ أحضرت لها مجموعة من الألعاب وتركتها تلعب بها، وكانت بين الفينة والأخرى تشاركها اللعب، وجعلتها تنصرف في هذا اليوم مبكرا عن الموعد المحدد.

اليوم الثاني كان أيضًا مواصلة لمحاصرة أية مشاعر سلبية يمكن أن يُكوّنها الطفل نحو المدرسة؛ حيث لم يتم إشراكها في أية أنشطة دراسية إنّما تُركت تلعب معظم اليوم، سواء في ألعاب حركية، أو من خلال جهاز الكمبيوتر، هم هنا لا يستعلجون في مسألة التعلم التي قد تكون على حساب تكيّف الطفل وتأقلمه مع المدرسة بكل ما فيها، ومراعاة هذا الجانب النفسي على قدر كبير من الأهميّة، لأنني هنا استحضرت شكوى كثير من الناس في الأسابيع الأولى من العام الدراسي من صعوبة تكيف أطفالهم مع المدرسة نتيجة الانتقال لأوّل مرة من البيت إلى المدرسة، ورغم محاولة مراعاة ذلك؛ إلا أنّ الجميع يمضي في التدريس، وينتقل من الحصة الأولى إلى الثانية وهكذا دون حل هذه الإشكالية التي تجعل التعلم لحظتها ممكنا وسهلا.

نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها هي متعلقة بالنظام الغذائي في المدرسة، وهذا عامل مهم جدا لأطفال يتّسمون بالنمو ومعظمهم يصحو صباحًا ولم يتناول أي غذاء، في هذه المدرسة توجد فترتين للغذاء؛ الأولى هي تناول وجبة الإفطار التي يحضرها الأطفال معهم من البيت بعد بداية اليوم الدراسي بوقت قصير؛ أمّا الوجبة الثانية فهي وجبة الغداء التي تقدمها المدرسة مجانًا لجميع الأطفال، وتراعي فيها خلفيّاتهم الدينية، فكل الوجبات التي تقدمها المدرسة هي وجبات "حلال"، وبالتالي لا يكون التعليم هنا على حساب الصحة الجسدية للأطفال والذين يحتاجون في هذه المرحلة العمرية إلى تغذية مناسبة.

اليوم الدراسي لأطفال هذه المرحلة مرن جدا؛ فهو يبدأ من الساعة التاسعة ويستمر حتى الساعة الثالثة؛ والمرونة هنا لا تقتصر على المدة لكن أيضًا تشمل ما يجري خلال اليوم من أنشطة وحصص لا يتم الضغط فيها على الأطفال بمواد دراسية تتنافى وهدف هذه المرحلة في جميع الأنظمة التعليمية، وهو بناء المهارات الأساسية من قراءة وحساب وكتابة إلا تلك الأنظمة التي تضع منهجا يخالف ما تضمنه في فلسفتها التعليمية.

هذه هي فلسفة التعليم في المدرسة الابتدائية الأسكتلندية كما قرأتها في الأسبوع الأول من التحاق ابنتي بها؛ وهي تبدو فلسفة تعليمية تقدمية تهتم بالطفل واستمتاعه ونموه؛ أي تهتم بالتربية قبل الاهتمام بالتعليم، الذي يركز فقط على التحصيل الدراسي، بغض النظر عما يلحق بالطفل بعد ذلك من أضرار جسدية وعقلية ونفسية تمضي معه لمراحل أخرى من حياته التعليمية؛ وهي ملاحظات نتاج ثلاثة أيام فقط من التحاق ابنتي بالمدرسة الابتدائية، وهي تشعر باستمتاع كبير، وتنتظر أن ينقضي هذا الأسبوع الذي تكون فيه المدارس في إجازة، لكي تعود إليها بسرعة، كما تنتظر موعد الذهاب إلى المسرح حيث حجزت لها المدرسة تذكرة من اليوم الأول، كما أنها لا تشغل نفسها بالحقيبة لأنّه لا يوجد فيها إلا القصة التي أتقنت قراءتها؛ فالمدرسة الابتدائية هنا لا تشغل نفسها إلا بالمهارات الأساسية، وجعل الطفل محباً للمدرسة، أليس هذا هدفا يستحق أن نقرأ فيه تجارب التعليم في العالم، ونعيد مراجعة ممارساتنا إن وجدنا أنّها ليست في صالح أطفالنا؟ السؤال للجميع للتفكير فيه فليس هناك شيء أكثر أولوية من تعليم هؤلاء الأطفال ليصنعوا لنا المستقبل الذي نريد.