عيسى الغساني
كما تطور العقل البشري عبر العصور، وانتقل من الوعي الفردي إلى الوعي الجمعي، تمايزت الأمم في إسهاماتها الحضارية، وبرزت بينها مدارس ومعاهد شكلت جسورًا بين الحضارات. ومن أبرز هذه المؤسسات مدرسة جند نيسابور، التي تُعد إحدى أعظم منارات الفكر الإنساني، وموقعها في مدينة جند نيسابور بإقليم خوزستان. تأسست في العصر الساساني قبل الإسلام، واستمرت فاعليتها حتى العصر العباسي، وشكّلت حلقة وصل بين الثقافات الشرقية والغربية.
التأسيس: القرن الثالث الميلادي
أنشأها الملك الساساني سابور الأول، واستقطب إليها علماء ومفكرين من الإمبراطورية الرومانية، من أطباء، ومهندسين، وفلاسفة. وكانت الدراسة تُجرى بعدة لغات، منها: السريانية، والفارسية، واليونانية، والعربية لاحقًا. وتميزت مناهجها بتدريس الطب، والفلسفة، والفلك، والرياضيات، بأسلوب مشابه لمدرسة الإسكندرية الشهيرة.
كما ضمت المدرسة مستشفى يُعد من أوائل المستشفيات التعليمية في التاريخ، يُعالج فيه المرضى ويُدرّب فيه الطلاب عمليًا. ومن أبرز من درس وعمل فيها الحارث بن كلدة، الذي قام بترجمة العديد من الكتب الطبية والفلسفية من اللغات الأجنبية إلى العربية، وأسهم في تأسيس البنية المعرفية التي قامت عليها لاحقًا دار الحكمة في بغداد.
لقد كانت مدرسة جند نيسابور نموذجًا حيًا للانفتاح العلمي، وساهمت في نقل علوم الإغريق واليونان والسنسكريت إلى اللغة العربية. وكان تأثيرها العميق واضحًا في إشعاع خرسان العلمي، حيث أصبحت لاحقًا منارة للعلم والعلماء في الحضارة الإسلامية.
وكان تدريس علم المنطق بأسلوب علمي في جند نيسابور باعتباره أداة لفهم الوجود والعقل والطب والأخلاق، وقد مهدت هذه المدرسة لنشوء الفلسفة المشّائية في بغداد، التي تأثرت بأرسطو وفسّرها الفارابي وابن سينا، وركزت على العقل والمنطق والتدرج في معرفة الحقائق. وفي المقابل، تطور الفكر الإشراقي على يد السهروردي، والذي جمع بين الفلسفة والعرفان، معتمدًا على "نور المعرفة" كطريق للكشف، لا العقل فقط. وهكذا، كانت جند نيسابور حلقة وصل بين النقل والترجمة، وبين الإبداع الفلسفي لاحقًا في الشرق.