اللَّيلُ إذا تمطّى

 

 

محمد علي العوض

 

منذ أن عرف الإنسان لغة الشعر وحتى يومنا هذا لم تنجب العرب قط شاعرًا أعظم من امرئ القيس، وذلك لابتداعه تراكيب وصور شعرية وفنيّة لم تألفها العرب من قبل؛ مما جعل أشعاره خالدة يُستشهد ويُتمثل بها على مرّ الزمان؛ بل ويهتدي بها حتى الهائمون في الصحراء القاحلة؛ فقد أورد ابن كثير في "البداية والنهاية" أنّ وفدًا من اليمن قَدِم على الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس. قال: وكيف ذاك؟ فقالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق، فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء، فتفرّقنا إلى أصول طلح وسمر، ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:

ولما رأت أنّ الشريعة همُّها

وأنّ البياض من فرائضها دامي

تيممتِ العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب: من يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ فقلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو خمسين ذراعا، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل.   

ويشير ابن الكلبي إلى أنّ امرأ القيس -الملقب بالملك الضليل و"الملك غير المتوج" لمُلكه الذي انتزع منه- سبق النّاس إلى كثيرٍ من المعاني التي أحسن ابتداعها وأُعجبت العرب بها واقتفتها الشعراء، وأنه سبق الناس برقة النسيب وتشبيه المرأة بالمها والظبي والقدرة على إجادة التمثيل، وإحكام طرفي التشبيه ونصاعة الاستعارة، وجودة السبك، وبديع الأخيلة.. فهو أول من قيد الأوابد بقوله:

 

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل

 

ويقول أبو عبيدة معمّر بن المثنى أنّ امرأ القيس أول من وقف على الأطلال من العرب، وأول من فتح الشعر واستوقف. كما يورد التبريزي في شرحه للمعلقات على لسان ابن الكلبي أنّ أمرأ القيس هو أوّل من شبّه الخيل بالعَصا والصّخرة والسِّباع والظِّباء والطير:

 

مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلً مُدْبر معا ** كجُلمود صخر حطّه السيلُ من علٍ

له أيطلا ظبي وساقا نعامة ** وإرخاء سرحان وَتقريب تَتفُل

 

ويقول ابن قتيبة في "طبقات الشعراء" شارحا البيت السابق أنّ امرأ القيس شبّه شيئين بشيئين في بيت واحد، وقد تبعه النّاس في هذا الوصف وأخذوه منه ولكنهم لم يجتمع لهم ما اجتمع له في بيت واحد - إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بأجمل منه-..

وأيضا هو أوّل من شبّه الثغر بشوك السيّال بقوله:

 

منَابِتُهُ مثلُ السُّدُوْسِ ولَوْنُهُ ** كشَوْكِ السَّيَالِ فهو عَذْبٌ يِفيْضُ

أي أنّ منابت أسنانها أو اللثة مائلة للسواد مثل لون السدوس؛ والسدوس وشاح أسود أو أخضر يضعه بعض العلماء والمشايخ على الكتف، أما أسنانها فلونها كشوك السيال الأبيض؛ وكانت العرب حين تصف بياض الأسنان تذكر سواد اللثة، وأورد صاحبا كتاب (حماسة الخالديين) عن الأصمعي أنّ العرب كانوا يدمون لثة الفتيات ثمّ يذرون عليها الكحل لتسّوَد فيكون سوادها مع بياض الأسنان حسنًا.

ويقف وصف الليل في معلقته الشهيرة دليلا إبداعيًا على نبوغه وتفرد شعريّته، فالأثر الشعري والفنّي لتلك الأبيات كما يقول شبر بن شرف الموسوي سيظل مُسيطرًا على نوعيّة التصوير الفنّي والإبداعي لحالة الليل في الشعر العربي كله؛ سواء كان ذلك في العصر الجاهلي أو العصور التي تليه.

ويرى أنّ شعراء العربية سواء في الجاهلية أو بعدها لم يستطيعوا أن يأتوا بأيّ قيمٍ فنيّة جديدة لصورة الليل بعد صور امرىء القيس، والنابغة الذبياني في أبياته الشهيرة؛ التي شبه فيها سطوة النعمان بن المنذر في الوصول إليه بالليل؛ الذي هو حتميّة كونية لا محالة واقعة، فظلام الليل يلف كل الدنيا ويصل إلى أي مكان فيها:

 

فإنّك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها أيدٍ إليك نوازع

 

وبرغم فرادة التصوير عند النابغة إلا أنّ وصف الليل عند امرئ القيس يظلُّ أمرًا شاعريا يندُرُ أن تجود قريحة بمثله، فهو بعد أنّ شبه ظلام الليل في هوله وصعوبته بموج البحر جسّم وشخّص الليل وقد أرخى وأسدل أستاره عليه مصحوبًا بالهموم والأحزان ليبتليه ويختبر صبره وقوة عزيمته:

 

وليْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ

علَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتَلِي

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ

وأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِي

بِصُبْحٍ، وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ

فباستعارات بديعة شخّص امرؤ القيس الليل وأنسنه بإسباغ أفعال وصفات إنسانية عليه، حيث صوّر الليل في شكل إنسانٍ باذخ الطول، وجعل له صلبًا ضخما، وأردافًا كبيرة، وصدرا ثقيلا، كما جعل لليل آذانا يسمع بها حين خاطبه في حوارية دالة عليها جملة "فقلت له" بأن ينقشع وينجلي حتى يطلع الصباح؛ علما بأنّ الإشراق ليس بأمثل أو أفضل منه، لأنّ نهاره امتداد لليل، وقد أظلم النهار في عينيه حتى حاكى الليل كما أشار لذلك "الزوزني".

ومثل هذه الحواريات تكثر في معلقة امرئ القيس؛ مثل حواره مع الذئب وعنيزة حين دخل خدرها وغيرها. وتعد دليلا على النزعة السردية عنده، فالملاحظ أنّ المعلقة حافلة بعناصر ومكونات الحكاية والسرد؛ من بنية وسياق وحواراتٍ ومونولوج وشخوصٍ وزمكانٍ، وأحداثٍ؛ كحادثة دارة جلجل؛ وكيف أنّه عقر مطيته للعذارى فأكلنها وفاضت حتى أصبحن يرتمين بلحمها. وكذلك حادثة الحُبلى التي طرق بابها، وقصته مع تلك الفتاة التي جاءها ليلا متجاوزا كل الحراس، وكيف أنّه خرج بها ليلا وقد لبست ثوبا طويلا يجر على الأرض حتى يمسح ويخفي آثار قدميهما؛ قبل أن يصوّر فصولا ومشاهد من مغامرته معها.