المستقبل يبدأ الآن (2)

الإحساس بالمستقبل

د. صالح الفهدي

 

يقول إلفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل": "إنَّ إحساسَ الفرد بالمستقبل قد يكُون من بين الأسباب الكامنة الموصلة إلى التكيُّف الناجح"، فماذا يعني الإحساس بالمستقبل؟ وما أهميته؟ الإحساس بالمستقبل هو التنبُّؤ بما يأتي به المستقبل، وفقَ شعورٍ داخلي مبنيٍّ على بعض الفرضيات المنطقية، أو الحدس الإنساني الذي قد يكون نتيجةً لمعالجة المدركات العقلية للإنسان بما ينطوي عليه المستقبل، وتكمنُ أهميته في أنه "يساعد" الإنسان في التعاطي بواقعية من أحداثه، والوعي بطرق التعامل مع المتغيرات، وتصوُّر كيفية العيش في المستقبل، أو كما يقول الاقتصادي الفرنسي فوارستيه في كتابه "تاريخ المستقبل من أجل الاطلاع على المستقبل المحتمل". ولأضرب على هذا بمقابلة شاهدتها للعالم الفيزيائي الياباني هيروشي أمانو -الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء 2014- عندما سألتهُ المحاوِرَة: قلت إنك كنت تفشل في اليوم الواحد ثلاث مرات ثم تعود آخر اليوم محبطاً، لكنك سرعان ما تنهض في اليوم التالي بهمَّة وعزيمة لتواصل مرة أخرى تجاربك، فما هو الدافع وراء تلك المعنويات العالية؟ قال: إنني أحافظ على تركيزي طول أيام العام، والسبب هو تخيُّل المستقبل.

لقد كان إحساسه بالمستقبل أو تخيُّله مُحفِّزاً للابتكار لديه، فقاده إلى "اختراع الصمَّامات الثنائية الباعثة للأضواء الزرقاء التي توفر الضوء، وتعتبر من مصادر الإضاءة البيضاء الموفرة للطاقة".

ولا يعدُّ الإحساس بالمستقبل أمراً مستحيلاً، أو أنَّه لا يمكنُ إثباته علميًّا، ففي العام 2011، نشر البرفيسور درايل بيم أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة كورنيل الأمريكية ، بحثاً بعنوان "الإحساس بالمستقبل"؛ أعلن فيه توصله إلى نتائج تشير إلى أن الإنسان يمتلك قدرة على الحدس أو التنبؤ بالمستقبل، مدعماً بحثه بنتائج علمية توصَّل إليها بعد تجربة أجراها مع عددٍ من الطلاب.

إن أوَّل ما يجبُ علينا -إن كنَّا جادِّين في صناعة المستقبل- أن نخلق إحساساً عامًّا بالمستقبل لدى الجميع كباراً وناشئة، وأُولى الخطوات هي تصويب معنى كلمة "مستقبل" في لغتنا؛ حيث تختلف دلالتها عن كلمة "Future" الإنجليزية؛ كلمة المستقْبَل في لغتنا تحمل معنى الاستقبال؛ أي أن المستقبَل شيء يأتي إليك وتتلقَّاه، وليس الشيء الذي تذهبُ إليهِ أنت بمحضِ تصميمك وإرادتك من أجل صناعته أو التفاعل معه. إشكالية هذا المعنى أنه سكوني في الزمن بسبب اتكالية الإنسان الذي "ينتظر السماء تمطر عليه ذهباً أو فضَّة"، في حين أن أحد معاني الكلمة الإنجليزية في معجم (merriam-webster) أنَّ المستقبل هو: توقُّع التطور المتنامي، وهذا يعني المشاركة الفعلية بهذا التوقع في صناعة الحدث المستقبل، على عكس المعنى العربي لكلمة "مستقبل".

وارتبط الخوف بهذا "المستقبل" المنتظر المجهول الغامض، فتوسَّعت القاعدة الاجتماعية لفريق الخائفين من المستقبل، والمعارضين للتغيير، والمرتكسين بانهزاميةٍ إلى الخلف، يلوكُون ذكريات الماضي ويعدُّون أيامه على أنها أجمل وأروع الأيام، مسلِّمين أنفسهم للأحداث، غير فاعلينَ فيها، وهم يحسبون أن ذلك هو الإيمانُ بالقضاء والقدر الذي يعدُّ ركناً من أركان الإيمان وهو ليس كذلك..!

أمَّا المنتسبون للمستقبل فهم إيجابيون، متفاءلون، يمتلكون مهارات وقدرات تمكَّنهم من التعامل مع المستقبل، يرون في الصعوبات التي تواجههم فرصاً، ولا يتردَّدون بالمشاركة في صنع الحدث، فهم يمتلكون جرأةً، وإرادة، وعزيمة على اجتراح التحديات.

إنَّ خلقَ الإحساس بالمستقبل يحتاجُ إلى تربيةٍ نفسية وفكرية منذ الصغر تتولَّاها المدارس أكثر من الأُسر؛ لأنها يجبُ أن تكون وفق منهجيةٍ واضحة، يقول ألفين توفلر في هذا السياق: "إننا نعطي أولادنا دراسات في التاريخ، فلماذا لا نعطيهم أيضاً دراسات عن المستقبل، نستكشف فيها إمكانيات المستقبل، واحتمالاته بطريقة منهجية"، ويستشهد بكلام روبرت يونك وهو من أبرز فلاسفة أوروبا المستقبلين القائل: "في وقتنا الراهن يكاد يكون التعليم مركزاً تركيزاً تاماً على ماذا حدث، وما صنع؟ أما في الغد، فلابد أن يُخصِّص ثلث المحاضرات والتدريبات على الأقل للاهتمام بالأعمال الجارية في المجالات العلمية، والتكنولوجية، والفن، والفلسفة، ومناقشة الأزمات المتوقعة والحلول الممكنة مستقبلا لمواجهة تحدياتها"، قال يونك هذا الكلام قبل نصف قرنٍ، فماذا كان سيقول اليوم؟!!

وإذا كُنَّا صادقين في مَسْعَانا نحو التقدم، فإننا بحاجة لغربلة ثقافتنا لما تشمله من مفاهيم قيَّدت الخيال البشري، وغرست فيه الخوف فأصبح مجرد التفكير في المستقبل يُصيبُ الإنسان بالفزع والخوف، وكأن المستقبل كابوس مرعب، وأن ما يأتي به هو في أغلبهِ مأساوي..!

يتطلَّبُ منا خلق الإحساس بالمستقبل أن نصوِّر المستقبل على أنَّه عالمٌ أكثر ازدهاراً، وتطوُّراً، وتقدماً، وأن الحياة الإنسانية فيه ستكون أكثر يُسراً وسلاسة.

خلق الإحساس بالمستقبل يتحتم علينا أن نُلهم الناشئة بعوالم تداعب أخيلتهم، حتى نثير فيها الشغف، والتوق لمعانقة هذه الأخيلة، وقد لمسنا ذلك في متحف ليوناردو دافنشي للعلوم والتكنولوجيا بمدينة ميلان الإيطالية؛ حيث تضمَّنت رسومات هذا الفنان العظيم أفكاراً هندسية متخيَّلة أصبحت حقيقة بعد مئات السنين مثل رسوماته لآلات الطيران.

الإحساس بالمستقبل هو بلسم الشفاء من القلق الذي قد يعتور إنسانًا ما لمجرد ذكره كلمة "مستقبل"، وحين يكون الإنسان مليئاً بالشغفِ نحو المستقبل، فلن يقفَ أمامه حائل دون هذا الشغف، ولن يفكر في تقدمه في العمر، ومن ذلك قصَّة عامل إبرة وهي من القصص التي وجدتُ فيها شخصيًّا إلهاماً عظيماً يستحق التوقف؛ إذ يحكي ألفين توفلر قصة ذلك العامل البسيط في كتابه "صدمة المستقبل"، فيقول: يقول ذات ليلة من ليالي الشتاء شهدت، وقد كنت أقدم برنامجًا عن علم الاجتماع في المستقبل، والحضور مجموعة تضم خبراء في التخطيط بعيد المدى، ومسؤولين في مؤسسات كبرى ودور للنشر ومراكز بحوث.. وكان كل شخص يشرح سبب التحاق بالبرنامج حتى جاء الدور أخيراً على ذلك الرجل دقيق الجسم، فوقف ليتكلم في إنجليزية رائعة -رغم نطقه المتكسر- فقال: اسمي شارلس ستين، اشتغلت طوال حياتي عامل إبرة.. سني الآن سبعة وسبعون عاما، وأريد أن أحصل على ما لم أحصل عليه في شبابي.. إنني أريد أن أعلم عن المستقبل، إنني أريد أن أموت رجلاً متعلماً"، وانتهى كلامه، لكنه بَقِي يرنُّ في آذان الحضور، لأنهم مصدومون.. ماذا يفعلُ عامل إبرة بين كبار المخطِّطين الإستراتيجيين، والمسؤولين في مؤسسات كبرى.. يقول ألفين توفلر.. سقطت كل دروع الدرجات العلمية وألقاب الإدارة والمراكز العليا!

هذه هي عظمة الإحساس بالمستقبل، يعظمُ معها الإنسان لأنها ترفعه إلى درجة عُليا يرى فيها نفسه معطاء في كل لحظاته، وهو الشعور ذاته الذي أراده نبيُّ الإسلام -عليه أفضل الصلاة والسلام- لأتباعِ هذا الدين العظيم في قوله: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، لقد أراد الإسلام أن يخلق إنساناً فاعلاً في كل أوقاته، حتى في اللحظات هائلة الخطب، بَيْد أنه لا يُمكن أن يكون كذلك لو لم يكن مُهيَّأً لهذه اللحظات، وذلك بإحساسه العميق وبعيد الأثر والمدى بالمستقبل.