حقيبة الوصية

 

د. صالح الفهدي

 

بعد أن نشرتُ مقطعًا مصوَّرًا أتحدَّثُ فيه- بمصاحبةِ مشاهد درامية- عن القيم والآداب العُمانية الخاصة بالمجالس، أرسل لي أحد الآباء الأفاضلِ رسالة صوتية قال من ضمن ما قال فيها "سأحتفظ بهذا المقطع ولكن ليس في هاتفي وإنَّما في حقيبة الوصية التي سأتركها لأولادي وسأكتب عليه: هذا من ضمن الوصايا للأولاد والأحفاد".

لقد أوقفتني هذه العبارة وقوفًا طويلًا، تأمُّلًا في معانيها وغاياتها، ولهذا أجدُ أنها تستحقُّ أن أتحدَّثَ حولها لأنها جديرةٌ بالإمعانِ والتدبُّر، فهذا الأبُ الجليلِ لم يرَ في المقطعِ مجرَّدَ مشاهدَ عابرة، وإِنما رأى فيه صورًا من القيم التي يتوارثها العُمانيون، ويُخشى عليها أن تتلاشى وتزول على مرِّ الوقت، خاصَّة وأن مجتمعنا- كسائر المجتمعات العربية الإسلامية- يواجهُ إعصارًا ملوَّثًا بالخراب الفكري، والدناءة الأخلاقية، قادمٌ-في أكثرهِ- من الغربِ الذي انحدرت أخلاقياته، وانتكست فطرته، وتميَّعتْ طباعه، ولم يكتفِ ذلك لنفسه؛ بل أراد لها الانتشار تحت مظلَّات زائفة وضع لها شعارات برَّاقة كحقوق الإِنسان، والحرية، والمساواة، وهذه كلَّها قد وضح الهدف منها دون مواربة وهو تغيير الفطرة الإنسانية السوية، وانتهاك الحقوق الإنسانية الطبيعية، وتمييع الحرية عن مفهومها الراقي، وتساوي الأجناس البشرية في الطبيعة وقد خلقه الله مختلفين في طبائعهم الذكورية والأُنثوية!

هذا الإِعصار الجائح ليس عبثيًا وإِنَّما ممنهج ومُقاد بوسائل إعلامية قوية، ووسائل تواصل اجتماعي نافذة، ومدعومًا بموازنات مالية ضخمة، لكي يحقق أهدافه، وينجز غاياته، وقد تحقق له بعض ذلك في الظاهر والباطن، ورأينا بعض لوثاته وقد انطلت على العقول الضيِّقة في منظورها، القصيرة في رؤيتها، الضعيفة في وازعها الإيماني.

وأمام ذلك فإِن مجتمعنا مهدَّدٌ في هويَّاته، وقيمه، وأخلاقياته، فإِن لم يفعل شيئًا مذكورًا، فإِن مصيره وخيم، ولا يمكن أن يلوم إلا نفسه حينما يعاني من هشاشة قيمه، وتردِّي أخلاقياته، والأُسرة -في مقدِّمته- لا يمكنُ أن تنآى بنفسها عن المسؤولية الحقة لترسيخ قيم أبناءها، وصلابة القاعدة الأخلاقية لشخصياتهم، وهُنا يأتي التشبُّثُ بالنواجذِ على الأخلاقيات والقيم التي هي أثمن وأعظم ما يمكن أن يورثه أَبٌ لأبنائه.

فِعْلُ هذا الأَب الفاضل أثار لديَّ الإِعجاب، فهو يُدركُ أن المال الذي يورثه أبٌ لأبنائه له قيمة ولكنه لا يساوي قيمة ما يورثه لأبنائه من وصايا التمسك بأخلاق وقيم وعادات وتقاليد وطباع، ولهذا حرص على أن يحتفظ بها في حقيبة ويكتبَ عليها أنها وصايا للأولاد والأحفاد.

ذكَّرني ذلك بشخصٍ كوري جنوبي يملكُ ثروة مالية طائلة، لكنها يؤكِّد بأنه يفضِّل أن يعلِّم أبناءه علمًا نافعًا من أن يترك لهم ثروةً دونَ علم، والأمرُ كذلك مع الأب الفاضل الذي آثر أن يترك لهم أخلاقًا وقيمًا تُعلي من شأنهم، وتعزُّ من قدرهم، فذلك خيرٌ من أن يترك لهم ثروةً طائلةً وهم ضعيفو الأخلاق الرشيدة، مسلوبو القيم النبيلة.

وهذه رسالة في حدِّ ذاتها للآباء بأنهم مسؤولون عن نقلِ الإِرث الثقافي الذي ورثوه لأبنائهم لأنه أعظم ما يمكن لأبٍ أن يرثه لأبنائه، فكم ترك من آباء أثرياء من المال لأبنائهم الذين لم يحرصوا على ترسيخ الأخلاقيات والقيم فيهم، فتلاشى الميراث المالي، وتطايرت النقود، وبذِّرت الأموال في فترةٍ قصيرة، ولو أنهم تركوا المال ولكن مع حرصهم على توريث الأخلاقيات والقيم لحفظوا أبنائهم من الضياع، وصانوهم عن الانحراف!

نحنُ مسؤولون اليوم وغدًا عن أبنائنا في الأخلاق السامية، والقيم الأصيلة التي نسلَّحهم بها، وأقول نسلِّحهم لأنها أقوى سلاحٍ في مواجهة ما يتقصَّدهم من مخاطر وتهديدات، ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك إن لم نكنُ نحن قدوة لهم في أخلاقياتنا وقيمنا.

تحيَّة لهذا الأب الفاضل الذي خصَّص "حقيبة الوصيَّة" لكي يحفظ موروث الأُمَّة الأصيل لأبنائه ليستمروا متمسكين بقيم وأخلاقيات السلف، ثم يورِّثوها بدورهم للخلف، وليت الأمة أن تكون حريصة مثلك في تخصيصها لـ"حقيبة وصية" للأجيال المتتالية.