ما تقولهُ الأصوات

 

د. صالح الفهدي

 

أرسلَ لي أحد الإخوة رسالة صوتية لأوَّلِ مرَّة، وليس بيني وبينه سابقُ معرفةٍ، بيدَ أَنني قرأتُ بعضَ سِماتِ المُرسل من خلالِ صوته، فاتَّضحت لي بعض معالم شخصيتهِ من نبراتِ صوته، وتضاعيفه، فرددتُ مُثنياً على خصالٍ فيهِ لا أعرفها عنه سوى ما بدا لي من صوته، فردَّ عليَّ الرجلُ الفاضلُ الذي أحالَ لي الرسالة بأَنَّ ما قُلتُ في صاحب الرسالة إنَّما يُعبِّرُ بالفعلِ عن ما يمتلكهُ الرجل في شخصيته من خصالٍ ومحامدَ وشمائل.

تذكَّرتُ أبيات الشاعر الأعمى بشَّار بن بُرد:

يا قَومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ

وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا

قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم

الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا

هُنا أتوقَّفُ عند الصوت لأفردَ فيه مقالًا لأننا قليلًا ما نعتني بالصوت، ولأنَّ الصوتَ يعكسُ شخصية الإِنسان، وما يحملهُ من سِماتٍ شخصيَّة؛ فالصَّوتُ يُعرِّفكَ على الواثقِ أو المُتهوِّر، المطمئِّنِ أو الخائف، الآمن أو القَلِق، العفيف أو الوقح، صاحب الحجَّةِ أو معدَمها، النشيط أو الخامل، المتفائل أو اليائس.

وفي أثر الصوتِ على الإنسان فقد أخبرني أحد القُضاة بأنَّه كلَّما سمعَ أحد مقدِّمي البرامج في إذاعة مُعيَّنة -وهو لا يعرفه ولم ير حتى صورته- فإِنَّه يبادرُ إلى إِغلاق المذياع فورًا لأنَّ نفسه تنفرُ من صاحب الصوت، فقلتُ له: لقد صدقتَ فصاحبُ الصوت به صفاتٌ غير حميدة، ليست منعكسةً على صوتهِ فحسب بل وعلى حدَّة نظراتهِ، ولذاعةِ كلامه!!

لقد ضمَّنَ لقمان وصاياهُ إلى ابنه مستوى الصَّوت فقال له على لسانِ ربِّ العالمين: "وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير" (لقمان: 19)؛ أي اخفض من صوتك حين تتحدَّث إلى النَّاس، وشبَّه ارتفاع الصوت كنهيق الحمار!

إنَّ نفوسنا تطيبُ إلى صاحب الصوتِ الهادئ، الرَّزين، المتحدثِ بثقةٍ، دون نشازٍ في صوتهِ، كما أنها تبغض صاحب الصَّوتَ المرتفع الذي يمزِّق الآذان فتكرهُ سماعه، وتبغضُ الإنصات إليه وإن كان محتواه هادفًا!

لقد عَنيَ الله سبحانه وتعالى بأثرِ الصَّوتِ على نفوس الوالدين فقال سبحانه: "إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" (الإسراء: 23)؛ إذ إنّ رفع الصوتِ يؤذي الوالدين، ويجرحُ مشاعرهما، ويصيبهما بالكَمدِ والامتعاض.

يقول الشاعر الأمريكي روبرت فروست: "هناك أصوات تُضفي معاني أكثر على الكلمات"، وكدلالةٍ على ذلك فقد يقولُ الكلمات نفسها أشخاصٌ مختلفون لكنك تشعر بالرَّاحة حين تسمعها من بعضهم وتنفرُ من البعض الآخر! ولربما هذا ما يفرقُ بين قصيدةٍ يكتبها شاعرٌ، ويؤدِّيها فنَّانٌ بصوته الشجيِّ فيضفي إليها معاني ذات أثرٍ وعمقٍ وأحاسيس.

وفي الحقيقة فإِننا لا نكترثُ كثيرًا في تعليم أُسس الصوتِ عند الحديث أكان ذلك في البيوت أو المدارس والصوتُ هو واسطةُ الإنسان إلى الآخر، ووسيلة إيصال فكرتهِ، ورسالته، ومعانيه، فذات مرَّة قابلتُ إنسانًا بسيطًا في السُّوق فقال لي: يعجبني كلامك، قُلتُ ما الذي فيه يعجبك؟ فلم يعرف كيف يُعبِّر، فاستعان بيده ليلوِّح بها كالموجات المرتفعة والمنخفضة قائلا: كلامك يرتفع وينزل هكذا، فوصلني معنى ما يريدُ قوله.

لقد نشأ مجتمعنا على خلقِ خفضِ الصوتِ أمام الكبير لأنَّ علوَّ الصوت يخلُّ بأدب المتكلم، ويشي بقلة احترامه لمن يتكلَّمُ إليه، ويأتي في مقدِّمة من يحتَّم عدم رفع الصوت أمامهم الوالدين، والعلماء، والمعلمين، وأصحاب الإحسان والأدب، وهذا خُلقٌ حضَّ عليه الخالق سبحانه وتعالى في نصحه للمؤمنين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" (الحجرات: 2).

أقول إنَّ لدينا إشكالية تتعلَّقُ بالصوتِ في مجتمعنا؛ فالذين يتناقشون ترتفعُ أصواتهم دون أن يدركوا أن ارتفاع الصوت يعني ضعف الحجَّة، وليس قوَّتها، وأن صواب الأمر هو في إعلاء مستوى الكلمات التي تقوى بها الحجَّة، وليس في الأصوات العالية، فالعربة الفارغة تحدث ضجيجًا عاليًا، أم العربة المُمتلئة فلا تحدث صخبًا وهي تسير.

إنَّ العناية بمستوى الصوت أمرٌ أساسيُّ لشخصية الإِنسان وعلاقاته يقول الكاتب معاذ الشحمة:"إنَّ الصوت شيءٌ فريدٌ أكثرُ من البصمة، إنه يكشف عن شخصيتك ومزاجك واتجاهاتك ومشاعرك، في كل مرة تفتح فيها فمك لتتحدث، فإنك تعرض نفسك وأفكارك وبضاعتك وخدماتك".

صوت الابن يؤثِّر على مشاعر والديه، وصوت الطالب يؤثِّر على أحاسيس معلميه، وصوت الخطيبِ يؤثِّرُ على مستمعيه، وصوت المحاور يؤثر على محاوره، وصوت المسؤول يؤثرُ على موظفه والعكس من هؤلاء صحيح، لهذا فاعتناءُ كلُّ فردٍ بصوته مهم؛ فبصوتكَ قد تقنعُ الناس إن كان هادئًا ورزينًا، وقد تنفِّرهم منك إن كان مزعجًا وصاخبًا ووقحًا، وبصوتكَ إن كان لطيفًا ورفيقًا تجذبُ قلوب الناس، وتبعدهم عنك إن كان صوتكَ غليظًا وقاسيًا، يقول الحق سبحانه وتعالى موصيًا نبيَّه الأكرم: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125).

إنَّ تأثير الصوت على الناس أكبر من تأثير الكلمات، فنسبته 38% بينما نسبة الكلمات 7% ولهذا قد يؤثِّرُ خطيبٌ كلامه متواضعٌ على الناس بسبب صوته ولا يؤثر فيهم خطيبٌ يُلقي خطبةً عصماء!!

الشاهد أنَّ: القوة ليست في إعلاء الصوت وإنَّما في الحجَّة، والتأثيرُ ليس في الزمجرة والغلظة وإنَّما في منطقِ القول، والإِقناعُ ليس في رفع نبرة الصوتِ وإنما في الهدوءِ والفكرة.

يقول أحد المفكرين: "ما يقوله الإنسان من كلام جيد يقوله بصوتٍ لا يموت أبدًا"، فأحيوا أنفسكم بأصواتكم، وانتبهوا لها فهي تقول للآخرين الكثير عنكم.