الفعل الوحيد

 

 

محمد علي العوض

 

حيرة العقل الإنساني أمام الموت قديمة متجددة، ويبدو لي أنّها بدأت منذ ما قبل التاريخ مع أول جريمة قتل نفسٍ بشرية حين قتل قابيل هابيل وقال "...يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي..." قبل أن يبعث الله إليه غرابًا يعلمه كيف يدفن أخاه في رمسه، أولى محطات عالم البرزخ.

شغلت قضيّة الموت الفلاسفة والمفكّرين، فطفقوا يستفسرون عن ماهيّة الموت، وكيفيّة حدوثه، وما بعده من عالَم آخر؛ وحدا الأمر بإفلاطون أنّ يرى الفلسفة هي تأمّل للموت، وذهب (شوبنهاور) معه في هذا الاتجاه بإشارته إلى أنّ الموت هو الموضوع الرئيس للفلسفة.. وبحسب تشاؤميته الموت هو الهدف الحقيقي للحياة؛ ومقدمة لحدث ما قادم. ويمكن تدبّر رؤيته هذه قياسًا على عبارة "الدنيا مطية الآخرة" فعملك الصالح في الدنيا هو زادك في الآخرة.

وبقوله بحتميّة الموت، وأنّ الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكّر في الموت يفرد إرنست هوكنج مساحة خاصة للموت في آرائه الفلسفية، وقسَّمه إلى قسمَين: الموت بالنسبة إلى الجنس البشري، والموت بالنسبة إلى الفرد، ووصف النوع الأول بأنّ له أهميّة قصوى ودَور حيويّ في التخلص من المسنين وإفساح المجال أمام الشباب، ويتطرّف في هذا لدرجة القول "إن لم يكن هناك موتٍ طبيعي للجأ الناس إلى القتل".

وسم ديكارت حياة ما بعد الموت بالسلامة والعذوبة حين قال: "لا أستطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون إلى حياة أكثر سلاماً وعذوبا من حياتنا".

وعندما تقرأ لكانط: "ليس الموت إلا القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً وأقوى مغزى.. ما يُسمى بالموت لا يمكن أن يقطع عملي لأنّ عملي ينبغي أن يُنجز لأنني يتعين عليّ أن أقوم بمهمتي" تخاله قرأ الحديث النبوي الشريف: "إذا مات ابن آدم اقطع عمله إلا من ثلاث..." لا سيّما عند تفحص عبارة "لأن عملي ينبغي أن ينجز".

لم يقتصر الأمر على هؤلاء فقط؛ فقد مثل الموت نقطة مركزيّة في الديانات السماويّة والوضعيّة؛ فقدماء المصريّين اعتقدوا بتواصل الحياة في الضفة الأخرى – أي ما بعد الموت- لذا كانوا يدفنون مع الموتى أشياءهم الماديّة كأواني الأكل والزينة والقمح اعتقادا بأنّها ستساعدهم في رحلتهم إلى العالم الآخر.

وتقول أسطورة الرافدين القديمة أنّ جلجامش أفزعه موت صديقه انكيدو ورثاه أياماً وتركه في العراء بلا دفن حتى خرج الدود من جسده، فأيقن جلجامش أنّه آيل لذات المصير، فمضي في رحلة باحثا عن نبتة الخلود، لكنّ الأفعى سبقته إليها وأكتلها قبل وصوله، فعاد جلجامش إلى مدينته مكسور الجناح وعازمًا على الاستمتاع بما تبقى من حياته بعد أن أدرك أن الموت سيدركه ولو كان في بروج مشيدة.

ونلمح تلك المفردة بكثافة عند قُسّ بن ساعدة الإيادي الذي وقف كثيرًا أمام الموت شعرا ونثرا. حيث تقول كتب الأدب أنّ قسًّا دفن ولديه أو أخويه إلى جانب بعضهما، ثم بنى حولهما بناءً يتعبّد فيه، ويتأمل عظمة الخالق متفكرا في مخلوقاته. ولم يكن هذا الاعتكاف أو الخلوة التي حدثت بعد "موت" أحبائه عملية متواصلة، ولا عزلة ممتدة ينقطع فيها عن الناس كالرهبان والنُسّاك، بل كان يخرج بأفكاره التأملية والفلسفية هذه إلى رحاب الناس عبر خطاب أدبي يعد حداثويًا بالنظر للأنساق الثقافية السائدة في ذلك العصر الجاهلي؛ فقد نذر قس نفسه داعية للوحدانية وعبادة الديان في مجتمع يدين بالربوبية لغير الخالق.. وكأنّ فقد من يعز بعلة الموت أيقظ غفلته ووسع مداركه، وكفى بالموت واعظا.

في الجزء الثاني "البداية والنهاية" يورد ابن كثير أنّ قُسًّا أول رجل تأله من العرب، ووحد وأقر وتعبّد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذّر من سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكّر في الأقدار.

وهو القائل في يوم عكاظ: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ؛ فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبَعُدَ النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.

ومما يروى من خطبه أيضًا خطبته الشهيرة بسوق عكاظ والتي قال فيها: "أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت... ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟".

 

ونلمح جانبا من ذاك عند عبيد بن الأبرص في معلقته حين يقول:

وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

 

وفي موضع آخر يقول لابنه حار:

يا حارُ ما راح قومٌ ولا ابتكروا

إلا والموت في آثارهم حادي

يا حارُ ما طلعت شمسٌ ولا غَرُبت

إلا تُقرِّب آجالا لميعادٍ

 

أيضًا حضرت فكرة الموت في شعر طرفة بن العبد في مواضع عدة منها:

أبني البناء، ولا أدري أأسكنه

أم لا، لكني أرجو فأبنيه

من كان في سفر فالموت صاحبه

ومن كان في حضر بالموت يأتيه

وإن مضى خمسة فالموت سادسهم

وإن مضى واحد فالموت ثانيه

 

وهذا هو الشاعر أبو العتاهية يتساءل عن عوالم ما بعد الموت قائلا:

الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ

فليتَ شِعريَ بعْدَ الموتِ ما الدَّارُ؟

برغم أنّ فكرة الموت مزعجة إلا أنّها بحسب إمام عبدالفتاح في تقديمه لكتاب "الموت في الفكر الغربي" الحقيقة الوحيدة في الكون كما أنّه الفعل الوحيد الذي يقوم به الإنسان وحده دون أن يصحب معه أحد وأيضًا الفعل الوحيد الذي لا فرار منه.