طبيب عيون أم معلم للتاريخ؟

 

وليد الخفيف

من القاهرة عاصمة العروبة احتفلت الجزائر في بلدها وبين إخوانها باللقب القاري، فاعتلت رؤوس رجالها عنان السماء عرش الكرة الإفريقية، ورُصع قميصها الجميل المزين بعلمها الزاهي بالنجمة الثانية، وما زالت المساحة متاحة لوضع المزيد من النجوم مستقبلاً .. فالمجد للجزائر..

ومع احتفالات العرب في شتى بقاع وطننا العربي الكبير احتفاءً بنصر أحد ممثليهم يخرج أحياناً صوت ناشز يحاول إفساد سيمفونية موسيقية بديعة، فجمال بلماضي كان هذا الصوت، فهو لا يحتاج لطبيب عيون كما أسلف، بل إنه بحاجة لمعلم لمادة التاريخ، وآخر يتعلم منه لغة الضاد، وثالث يعلمه الرقي وأسلوب الحوار، وربما لم يجد ذلك نفعاً قبل عمل لطبيب قلب ماهر ليزيل بقعة السواد التي تملأ صدره المحتبس بالكراهية .. فلو كان مثقفاً لأراحنا .. ولكن هذه حدود ثقافته الضحلة، وعمومًا فنحن المصريين لم نصغ إلى حديثك الركيك قبل المباراة النهائية عندما ذكرت أن أصحاب الأرض أحرار في تشجيع أحد المنتخبين، ولا بعد المؤتمر عندما تنصلت من مؤازرتهم .. فلأنها مصر الكبيرة لم تنظر إلى الصغار، فشكرا لمن صنع توجهاتنا منذ طفولتنا في مدارس حكومية بسيطة علمتنا الكثير في مناهج زاخرة بالعلم والأدب والذوق الرفيع.. لقد تعلمنا أن مصر عاصمة العرب، وأن حدودنا وطن عربي كبير ندافع عنه بأرواحنا .. لقد كان من حسن الطالع أن تتلمذنا على أيدي رجال مخلصين يؤمنون بالقومية العربية التي بدت كخيط رفيع بسبب الجهلاء أمثالك .. فمصر لم تقم إلا بدورها، ولم يقم شعبها إلا بمسؤوليته تجاه أشقائه، إنها الهوية التي غرست بين ضلعوهم من المعلم الكبير جمال عبد الناصر، وصنيعة الشهيد البطل أنور السادات إنها كتب هيكل، وأشعار شوقي وحافظ إبراهيم وألحان عبد الوهاب وفوزي وإرث مصطفى كامل وسعد زغلول، ورد جميل وعرفان للوطني الجزائري خالد الذكر هواري بومدين، وإحياءً لأمجاد رمز النضال جميلة بو حريد، وتخليدًا لذكرى أبطال عظماء اختلطت دماؤهم الذكية مع دماء أشقائهم المصريين دفاعًا عن سيناء فكتب لهم النصر في 1973.. فأين أنت من هؤلاء؟ فأنت كنقطة في السماء ترى الناس صغيرة ولا أحد يراك، فخلود الذكرى للعظماء فقط..

وربما أجد الوقت مناسبًا لأوجه رسالة لك رغم علمي أنك غير ناطق بالعربية، غير أنه من الممكن أن تستعين بمترجم من القصبة التي أنجبت عظماء الجزائر .. لك أن تعرف أن رجل جزائري محدود الحال كان يقتطع جزءًا من راتبه الشهري للمساهمة في تسليح جيش مصر بعد نكسة 67، وأن هذا الرجل نفسه استشهد أخوه في سيناء وعاد ملفوفاً بعلمي مصر والجزائر وغيره كثر .. عليك أن تدخل بيوت كبار السن ممن وضعوا على جدران بيوتهم القديمة صور عبد الناصر، ثم أقاموا العزاء في حاراتهم الزاخرة بالوطنية وحب العروبة .. فهل تدري أن ثورة تحرير الجزائر انطلقت من مصر في 10 أكتوبر 1954، وهو نفس تاريخ تأسيس جيش التحرير الوطني الجزائري الباسل؟ أعرف أنك لا تعرف .. هل تعلم أيضًا أن تبني مصر لقضية الجزائر كان وراء مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، الأمر الذي دفع بن جوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) إلى قول على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدّروا أن «عبد الناصر» الذي يُهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر.

هل تعلم أن مصر مثلت الجزائر في مؤتمر باندونج الذي عقد في مايو 1955، لذا يقول الكاتب الجزائري إسماعيل دبش في كتابه «السياسة العربية والمواقف الدولية تجاه الثورة الجزائرية" تأييد مصر للقضية الجزائرية ولكل مطالب جبهة التحرير الوطني كان مطلقًا، ومتشددًا، وبدون تحفظ، حتى لو تعلق الأمر بعلاقة مع دولة كبرى لها مصالح حيوية وإستراتيجية معها مثل الاتحاد السوفيتي؟

هل تعلم أن أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية بتمويل مصري بلغ حوالي مليون دولار، كما قدمت مصر 75% من الأموال التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ 12 مليون جنيه سنويًا. وخصصت مصر - بقرار من جمال عبد الناصر - الدخول الأولى من تأميم قناة السويس (بلغت 3 مليارات فرنك فرنسي قديم) للكفاح الجزائري.

هل تحفظ النشيد الوطني الجزائري الذي لحنه الموسيقار المصري محمد فوزي؟ هل غنيت مثل عبد الحليم حافظ للجزائز؟ هل تابعت عمل المخرج المصري يوسف شاهين بإخراج فيلم جميلة بو حريد الذي يتحدث عن الثورة الجزائرية؟

هل تعلم ماذا قدمت لنا الجزائر ؟ سأعود بك إلى عام 1973 عندما طلب الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين من الاتحاد السوفيتي شراء طائرات وأسلحة لإرسالها إلى المصريين عقب وصول معلومات من جزائري في أوروبا قبل حرب أكتوبر بأنَّ إسرائيل تنوي الهجوم على مصر، وباشر الرئيس الجزائري اتصالاته مع السوفيت لكنهم طلبوا مبالغ ضخمة فما كان من الرئيس الجزائري إلا أن أعطاهم شيكا فارغا وقال لهم أكتبوا المبلغ الذي تريدونه، وهكذا تمَّ شراء الطائرات والعتاد اللازم ومن ثم إرساله إلى مصر.

 

لقد أمدت الجزائر مصر بـ 96 دبابة و32 آلية مجنزرة و12 مدفع ميدان و16 مدفع مضاد للطيران وما يزيد عن 50 طائرة حديثة من طراز ميج 21 وميج 17 وسوخوي 7، فلقد كان دور الجزائر في حرب أكتوبر أساسياً ولما لا إذ كانت الجزائر ثاني دولة من حيث الدعم بعد العراق، فشاركت على الجبهة المصرية بفيلقها المدرع الثامن للمشاة الميكانيكية بتعداد 2115 جنديا و812 صف ضباط، و192 ضابطا جزائريا، لذا ثمن السادات دور الجزائر قائلاً «إن جزءًا كبيراً من الفضل في الانتصار الذي حققته مصر في حرب أكتوبر بعد الله عز وجل يعود لرجلين اثنين هما الملك فيصل بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية، والرئيس الجزائري هواري بومدين".

فهذا ما تعلمناه .. وإن خرج بعضنا عن النص فإنِّه صنيع إعلام ممول أحدث الوقيعة بيننا، فما أجمل أن نتعلم من حفيظ دراجي .. فصوته الشجي يفوح بعبير الوطنية وحب العروبة، فلماذا لا نستلهم من دراجي جانباً من ثقافته. إنها القوة الناعمة التي يطوعها الكبار لخدمة أوطانهم.