بين المعري وشوبنهاور

 

 

محمد علي العوض

 

 

كان وما يزال التشاؤم صفة شائعة بين الشعراء والأدباء على مختلف العصور؛ لم يسلم منه ابن الرومي ولا الخيام ولا نازك الملائكة حتى.. والمعري - نسبة إلى بلده معرة النعمان- أحد هؤلاء الذين اصطبغ شعرهم بهذه الصبغة حتى سمي بها حين لقبوه برهين المحبسين، محبس التشاؤم ومحبس العمى وإن كان هو نفسه في أحد أشعاره يُعدد محابسه بالثلاثة، داء العمى، واعتزال الناس، وحبس نفسه في جسد خبيث:

 

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني

فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي

وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

ويعدد عبد الزراق أيوب في كتابه "انعکاس الفكر السياسي على الأدب العربي في العصر العباسی" أسباب ودواعي التشاؤم عند المعري فيقول إنّه کان يعاني من فقد بصره؛ فقده بالجُدری بعد أربعة أعوام من مولده فذهب بصره، ولم يعرف من الألوان إلّا اللون الأحمر، وهو لون الثوب الذي لبسه يوم أصابه الداء، يضاف إلى ذلك موت والديه وفقره الشديد. وقد ملأ كتابه اللزوميات بهذا التشاؤم من الدنيا ووصف الحياة بأنّها دار الآلام والعذاب، ويضاف إلى ذلك أيضًا أنّه عاش في زمن مليء بالفساد بکل أشکاله وهو العصر العباسي الذي قسمه طه حسين إلى قسمين: عصر القوّة وعصر الضعف، وکان أبو العلاء يعيش في عصر الضعف والفساد.

ويضيف حنا الفاخوري إلى العمى دواع تشاؤمية أخرى بقوله إنّ المعري كان ذا خلق ذميم، قصير القامة، نحيف الجسم، واسع الجبهة مشوه الوجه بآثار الجدري؛ ويصفه مُعجبًا: "غير أنّ ذلك الثوب الرث كان يحوي نفسا كبيرة". ويورد ابن العديم في "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري" أنّه "کان منذ حداثته يسيئ الظن بالناس، ولا ينظر إليهم نظرة الرضی والطمأنينة، ويميل إلى الانقباض عنهم؛ وحُبّبت إليه العزلة"..

وبالنظر إلى ذلك يمكن تصنيف تشاؤم المعري في اتجاهين؛ أولهما الاتجاه النفسي المتمثل في المرض بالعمى واليتم والفاقة، وثانيهما الاتجاه الاجتماعي بعيشه في عصر کانت الحياة الاجتماعية والسياسية فيه مضطربة، وقد انعکس ذلك في كثير من شعره.

بل بلغ حد التشاؤم بالمعري أن يذم اسمه فهو أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء التنوخي، ففي أشعاره يعكس وجهة النظر هذه بأنّ اسمه يجب أن يشتق من الذم لا الحمد وذلك لكثرة أفعاله المذمومة:

 

رويدك لو كشفت ما أنا مضمر

من الأمر ما سميتني أبدًا باسمي

أطهر جسمي شاتيًا ومقيظًا

وقلبي أولى بالطهارة من جسمي

 

ولم يقف الأمر على كره اسمه بل لحق حتى بكنيته فهو يرى أنَّ كنية أبي العلاء تتعلق بالعلو والرفعة، والأولى أن تكون بدنو المنزلة وأسفلها حيث يقول:

دُعيت أبا العلاء وذاك مَيْنٌ

ولكن الصحيح أبو النزول

لم يولد أبو العلاء كفيفا بل ولد مبصرا إلا أن الجدري الذي داهمه في سن الرابعة تسبب في فقدانه البصر، وقد حاول التعايش والتصالح مع عماه والاستفادة منه في حياته بل عدَّه نعمة تستوجب الحمد بقوله "أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، وقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء والبغضاء":

قالوا العمى منظر قبيح

قلت بفقدي لكم يهون

والله ما في الوجود شيء

تأسى على فقده العيون

مرد اعتزال المعري للنَّاس اعتقاده بفساد المُجتمع لغياب قيمتي العدل والمساواة، وتفشي الخيانة والبغض والظلم، ويرى أنه في مجتمع طالح كهذا يعد الإنجاب جريمة وتجنياً على القادمين الجدد، ويعزو الكاتب عمر فروخ هذه النظرة التشاؤمية إلى تأثر المعري بمذهب مزدك الفارسي ومذاهب الزهاد الهنود التي ترى أن الكون مليء بالشرور وعدم السعادة:

دُنياكَ دارُ شرورٍ لا سرورَ بها

وليسَ يَدري أخوها كيفَ يحترسُ

ويكتب إسلام محمد أنّ العقاد أوجد كثيرا من التشابه بين نزعة المعري التشاؤمية، ونزعة الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور؛ لاسيما في فلسفتهما حول النوم؛ فشوبنهاور يرى أنّ النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا ذات ما كتبه أبو العلاء في شعره:

 

ونومي موت قريب النشور

وموتي نوم طويل الكرى

 

وقريبا من هذا يقول في موضع آخر:

 

وموت المرء نوم طال جدًا

عليه، وكل عيشته سهاد

 

ويرى عماد الجبوري في معرض مقاربته بين المعري وشوبنهاور أن كلاهما ينظر إلى العالم والطبيعة والمجتمع من زاوية كالحة لا تطاق؛ فالخير والسعادة عندهما أمور سلبية زائلة؛ لأنّ الحياة كلها كد وتعب وليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، فالوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:

ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها

فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد

ويتفق ذلك مع فلسفة شوبنهاور بأنّ "في كلّ فرد حوض من الألم لا محيص عنه"، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأنّ هذا الألم له نهاية، فإنه سوف "يحل مكانه على الفور عناء آخراً" وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص.

ويتساءل الجبوري حول أسباب هذا التشاؤم الدامس وهذه العدمية المطلقة ليأتيه الجواب من المعري:

في العدمِ كنا وَحُكمُ الله أوجدنا

ثم اتفقنا على ثانٍ من العدمِ

ويتناص ذلك مع مقولة شوبنهاور: "الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم" وفي كلتا الحالتين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.