"يوميّات سراب عفّان" لجبرا إبراهيم جبرا (1-4)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

العشق الذي يمتدّ نحو الوطن
أولاً ـ تمهيد:
لا تخرج رواية "يوميات سراب عفّان(1)" لجبرا إبراهيم جبرا عن النسق الروائي العام الذي اختاره لنفسه في رواياته (2) التي تحتفل بأبطالٍ لا ينتمون إلى قاع المجتمع، مخالفاً بذلك كثيراً من الروائيين الذين يلتقطون أبطالهم من ذلك القاع.
تحكي "يوميات سراب عفّان" عن حالة عشق صاخب بين سراب التي تعيش ربيع عمرها، ونائل عمران الذي حوّلت سراب خريف عمره ربيعاً: تشتري سراب المثقفة التي تكتب يومياتها تحت اسم رندة الجوزي، رواية جديدة لنائل عمران، وتقرؤها، وتبني حكاية في يومياتها عن تطور علاقتها به، ثم تلتقيه، ويعيشان حالة حب جعلته ينسى تقريباً زوجته سهام التي غادرت عالمنا، وهي ما تزال في السادسة الثلاثين.
غير أن ثمة حباً آخر كان مستقرّاً في قلب سراب، هو حبّ فلسطين، وهذا ما جعلها تلتقي صديقاً من أصدقاء نائل (هو عبد الله الرامي)، وتنسق معه أمر رحيلها إلى أورويا، وانضمامها إلى أحد التنظيمات الفلسطينية، وقد أبلغت نائل بشكل غامض عن ذلك العزم: "أريد أن أرحل لسنين، وربما لغير رجعة"، ص197. وإذ يسافر نائل، وهو رجل القانون المعروف، إلى فرنسا، بعد أشهر من اختفاء سراب؛ ليشارك في مؤتمر، يشاهدها في إحدى مكتبات باريس، ليكون هذا اللقاء بداية وداع جديد: "وعند الوداع، كانت دموعها تجري، وذقتُ ملحها على خديها الموردين، وبقي ملحها على شفتي، وفي الطائرة، وأنا أشدّ حزام الأمان، وأمتنع عن التدخين الذي تحرّقت إليه، تساءلت: هل سألقاها مرة أخرى؟ هل رقم الهاتف الذي أُعطيته دون العنوان صادق هذه المرة؟ بل هل هي طالبة في السوربون أصلاً؟ هل هي حقاً غير متزوجة؟ وما الذي هي فعلاً تقوم به في التنظيم الذي ترفض الحديث عنه؟ سأنتظر اليوميات التي وعدتني بها ـ هذا إن كانت ستفي بوعدها"، ص277.
وهكذا يغادر نائل عمران باريس تاركاً وهمَ سراب الحاضرة أمام عينيه؛ ليعود إلى حقيقة سهام الغائبة في ملكوت الموت، متأهباً، ربما، لوهمٍ جديد، يخرجه من دائرته المغلقة التي تنفرج حين يطلّ على حب جديد.
ثانياً ـ رواية الأمكنة المفتوحة:
إنّ ميل الأمكنة الحاد نحو الانفتاح ظاهرة لا تخطئها العين في هذه الرواية (وفي روايات جبرا عموماً، باستثناء الغرف الأخرى)، ويأتي هذا الانفتاح مسوّغاً، يناسب صفات شخصياته من جهة، ومدعوماً، من جهة أخرى، بشغفه بالطبيعة، وترحاله الذي أتاح له أن يعاين أماكن الجمال المختلفة من حوله.
وقد بدا هذا الميل في تعامل الشخصيتين الرئيسيتين/ سراب ونائل مع المكان، فسراب مشغولة بجمال الطبيعة، حتى حين تكتب يومياتها، وها هي ذي رندة الجوزي (مرآة سراب الأخرى) تعبّر عن علاقة خاصة مع المكان المفتوح من خلال السياقين التاليين:
•    "وتراءى لي مشهد من مشاهد ذكرياتي الجبلية: منحدرات خضراء كالشرفات، تتوالى نزولاً حتى تغيب في أعماق ضبابية، كأنها وجدت هناك بخطأ من الطبيعة. الوحشة طاغية. حتى العصافير هجرت الحقول المهملة، والصخور كحيوانات خرافية جمدت مكانها، كما بموت باغتها في عزّ الظهيرة. ورندة هناك. كانت وحدها هناك"، ص9.
•    "تلبس بنطلون الجينز الأزرق وقميص الجينز المفتوح عند النحر والصدر، تريد الابتعاد عن الناس، والاختلاء بنفسها مع أصوات المياه الساقطة، في انتظار الريح التي من شأنها أن تهبّ قبيل غروب الشمس"، ص10.
وتبدو سراب نفسها في اختياراتها المكانية من مثل حبها للمشي تحت المطر، ومن مثل سفرها إلى الخارج، وانعتاقها من أسر العمل الذي يقيّد حريتها، نزّاعة للمكان المفتوح أيضاً، حتى حين تكون في مقهى الأنسام/ المغلق، فتفتحه بوساطة النافذة المطلة على عالم الخارج، مراقِبةً أنوار الشارع وواجهات الحوانيت ولافتاتها المضاءة والمطر الذي يضرب زجاج النافذة، وتقرؤه مثل عرّافة، تحدّق في الزجاج، وترى في القطرات ما يشبه أقدار الناس المختلفة: "سيول هنا، وسيول هناك، وقطرات توقفت في منتصف الطريق، وأخرى تنزاح ببطء نحو قطرات بجوارها"، ص106.
أمّا شغف نائل عمران بالمكان المفتوح فهو شغف طارئ، شغف انتقالي (على الرغم من أنه يشغل مساحات معتبرة في الفضاء الطباعي)؛ ذلك أنّه كان يعيش حالة الكمون العاطفي الذي تفجّر مع رغبته في الكتابة من جديد؛ إذ كان المكان يعني له غرفة النوم، وتمثال رأس زوجته الراحلة سهام، وخزانة ملابسها، وزجاجات عطرها:
•    "وفي بقائي وحدي في تلك الغرف كنتُ أعايش سهام، وكأنها لم تغب يوماً، ولن تغيب"، ص77.
•    "حتى ثيابها أبقيتها في الدولاب الكبير في غرفة نومنا مع ثيابي، وأبقيت زجاجات عطرها، وأدوات تجميلها على طاولة التواليت أشهراً عديدة"، ص77.
غير أنّ هذا المكان المغلق على ذات المبدع ينفتح بفعل الكتابة ذاتها، ويطرح على المتلقي وجهة نظر محترمة، تدعم رؤية أولئك الذين يرون ـ وأنا منهم ـ أن فعل الكتابة يخرج المرء، في واقعه أو في خياله، من سجن نفسه، وهو ما يجعل في الخروج من الجنة انطلاقة جديدة نحو الإبداع الذي يعيد إلى النفس توازنها وسلامها الداخلي، على نحو ما يقول الطيب الهادي صديق نائل: "الخروج من الجنة هو الملهم الحقيقي. الخروج إلى معترك الخيبة، معترك الشر، معترك العذاب. حينئذ يصبح الفن ضرورة، الطريق الوحيد إلى الخلاص"، ص243.
وقد بدا هذا جلياً في التغييرات التي طرأت على نائل، تلك التغييرات التي يرصدها جبرا رصداً دقيقاً: "وجاءت الكلمات الأولى من "الدخول في المرايا"، فشعرتُ كأنني كنت طوال تلك الأشهر في غرفة مظلمة، محكمة الإغلاق، وإذا بشق ينفتح في أعلى الجدار، ويتسرّب منه شعاع، سأتشبث به، ليرفعني بشكل ما إلى حيث يتسع الشقّ، ويغدو كوة أستطيع النفاذ منها إلى الفضاء من جديد"، ص75.
ومع استمراره بالكتابة، يستمر الانتقال من الكمون إلى الفعل، فيتسع الشق في أعلى الحائط، وتتهدّم الأجزاء المجاورة له، فيخطو نحو الخارج، وهكذا يصبح متاحاً لمن عاش في عزلة انفرادية مختارة أن يخرج منها، وأن يترك غرفة سهام؛ ليعانق فضاء آخر:
"عدتُ من مكتبي إلى الدار حوالي الثانية بعد الظهر، ولي شهية هائلة للطعام. وتقصّدتُ أن أتناول غدائي، وأنا أواجه نافذة تطلّ على حديقة الدار التي تتميز بكثرة ما فيها من أشجار النارنج، والعديد من حبات النارنج ما زال يتوهّج بين أوراقها القشيبة الآن، كقناديل من ذهب"، ص87.
وهنا يخلق جبرا مكان اللقاء المناسب لبطليه: سراب التي تحب أن تتمشى تحت المطر، حتى مع نسيختها الإبداعية/ رندة، ونائل الذي يتأمل السّماء، بعد إنجاز روايته، فيراها "صاحية لا حدود لأبعادها"، ص88.
وإذ تنمو العلاقة القصيرة بينهما نحو الحب الجارف يستمر المكان في الانفتاح، وإذ تسافر تتركه مرة أخرى أسيراً ستّة أشهر قبل أن يقرّر الانطلاق، وتكون باريس محطة مهمة من محطات فضائه؛ حيث يصف ملامح وجه المدينة، برذاذها اللذيذ المنعش الذي يترجّح بين المطر والثلج، فينتعش بدوره، ربما في إشارة سردية إلى إحساس خفي بقرب لقاء سراب في إحدى المكتبات الجامعية: "خرجت من الفندق وحول رقبتي لفاف صوفي أشعر أنه يقيني ما يكفي من خطر البرد، ولا يمنع عني لذّته"، ص247.
وينتبه جبرا بحكم خبرته الروائية، حين يعمل على تأثيث الأمكنة، إلى استخدام التأثيث السردي، لا التأثيث الوصفي، أي أنه يضع التأثيث في سياقه الحكائي دون أن يوقف السرد، سواء أكان متخيلاً أم حقيقياً. وتمكن الإشارة على سبيل المثال إلى غرفة الجلوس في بيت نائل عمران، كما تخيلتها سراب (أ) أي سراب الوهمية التي اختطت لنفسها مساراً حكائياً متخيلاً قبل أن تلتقيه، وقادها خيالها إلى مكان مغلق، ولكنه مؤهل للانفتاح، بسبب وجود كتب ولوحات وتماثيل تحيل على الثقافة من كل لون وجنس؛ فالغرفة "أنيقة الأثاث، كثيرة رفوف الكتب أيضاً، ولكنها متميزة بلوحات كبيرة، وتمائيل من خشب وبرونز"، ص68.
وعلى الرغم من انتقال المكان بعد ذلك من الخيالي إلى الواقعي (الذي هو واقعي فنياً)، فإن سراب التي دخلت بيت نائل عمران لم تتخلّ عن وهمها اللذيذ، وراحت، مستندة إلى ما ألفته من شخصية نائل ومن كتبه، تتوقع تفاصيل هندسة بيته، كما توقّعها خيالها الخصب:
"ـ ولكن هذا البيت أعرفه. فاندهش: تعرفينه؟
ـ كما أعرفك. لا تتكلم، فأعطيك تفاصيل هندسته، ونحن واقفان هنا. هذه مكتبتك، تمام؟ وهنا الصالون، تمام؟ وهناك غرفة الطعام، وذاك هو المطبخ، وخزائنه ذات لونين، أبيض وأزرق فاتح. وتلك الغرفة المغلقة الباب، غرفة نومك. والتي تليها غرفة نوم مهملة. للضيوف، ربما؟ وهذا الدرج الصاعد يؤدي إلى غرفة أختك، وغرفة غسان. تمام؟"، ص154.
(يتبع) ...
...................
هوامش:
(1)    جبرا إبراهيم جبرا: يوميات سراب عفّان، دار الآداب، بيروت، ط2، 2006، (وقد طبعت أول مرة عام 1992).
(2)    صدرت لجبرا، بالإضافة إلى كتبه النقدية، ومجموعته القصصية، ومجموعاته الشعرية، الروايات التالية:
•    البئر الأولى (فصول من سيرة ذاتية)، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، ط1، 1987.
•    البحث عن وليد مسعود، دار الآداب، بيروت، 1978.
•    السفينة، دار الآداب، بيروت، 1970.
•    شارع الأميرات، "شارع الأميرات"، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، الطّبعة الأولى 1994.
•    صراخ في ليل طويل، بغداد، 1955.
•    صيادون في شارع ضيق (بالإنكليزية 1960)، ترجمة: محمد عصفور، دار الآداب، بيروت، 1974.
•    عالم بلا خرائط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982. (بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف)
•    الغرف الأخرى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986.
يوميات سراب عفان، دار الآداب، بيروت، 1992.

 

تعليق عبر الفيس بوك