الكتابة في عصر النانو تكنولوجي

محمد علي العوض

 

(إن لم نكتب للأجيال الحالية والقادمة فلمن نكتب ولم نكتب؟(..

هكذا صدّرت الروائية السودانية آن الصافي مؤلفها "الكتابة للمستقبل" والذي حوى 15 مقالة متنوّعة تلقي في مجملها الضوء على موضوع الكتابة في المستقبل وضرورة أن يستصحب الكاتب وهو يخاطب المتلقي، متغيّرات العصر، الفكريّة والتكنولوجيّة في ظل حضارة إنسانية جديدة تستطيع فيها الانتقال والطيران بين أقبية "الزمكان" عبر عوالم ذكية من التقنيات والنظم المعلوماتية الرقمية ومدن حاملة لثقافات متنوعة (كوزموبوليتان)..

الرواية بوصفها جنسًا أدبيا كتابيًا وأداة حيوية لتسجيل الذاكرة، وانعكاسا للأحداث والرؤى والأفكار، سيكون لها نصيب من تأثير هذه الثورة الرقمية، ومجاراة عصر النانو تكنولوجي. تسعفها في ذلك بحار اللغة الزاخرة وتلك المرونة التي يتسّم بها هذا النوع من الكتابة؛ فالرواية العربية منذ أن خطت أولى عتباتها الاستراتيجية ما فتئت تتطور يوما بعد يوم مواكبة لتقنيات السرد، وتطور العلوم الإنسانية فمصطلح "الزمكان" نفسه كمصطلح نقدي "أدبي" تمّ اقتباسه من نظرية اينشتاين النسبيّة " العلمية؛ وعند ظهور عصر السينما والتلفزيون لم يقف كتاب الرواية مشدوهين كثيرا أمام نور شاشتها الساطع بل جاروا حركة الصورة الناطقة، وأفادوا من تقنيات الوصف الدقيق فيها، وتلاحق الأحداث والتشويق والفلاش باك والاسترجاع والاستباق وتعدد الجمل البصريّة فبدت لغتها مشهدية، أو كما وصفتها هيام عبد زيد عطية بأنها لغة سينمائية تنفتح على بعد ثالث رؤيوي، يسمح بإعطاء الدوال مدلولاتها.

ومثلما حتمت الحداثة على الرواية الانفتاح الأجناس الأدبية والفنون البصرية الأخرى وطرق موضوعات الهوية وثنائية المركز والهامش؛ كذلك ستحتم التطورات الرقمية وسطوة المستقبل على الرواية إعادة تشكيل بنيتها السردية على مستوى التقنيات والعناصر، فالنص في الرواية المستقبلية مثلا بإمكانه أن يتحمّل أكثر من شخصية محورية، والتميز بخاصية تعدد أبعاد الشخصيّات، وسيحتمل النص "وجود شخصيّات حقيقية ذات 3 أبعاد وربما 4 البعد الرابع لقيام الشخصيات من إنسان وحيوان وكائنات أخرى بأمور خارقة للعادة قد تدرج تحت الواقعية السحرية. ولن يكون غريبا أن "يظهر في بعض النصوص شخوص لا توضح إن كانت حقيقية أم متخيّلة على الرغم من التفاصيل التي تجسدها"..

تلغي آن الصافي في الكتابة للمستقبل الحد الفاصل بين ما هو متخيّل وما هو واقعي، وتسعى لتوظيف التخييل كأداة عاكسة لجوهر النفس البشرية والتجربة الشخصية حين تعمد لصنع عوالم وفضاءات يصادفك فيها الخيال العلمي، والسفر عبر الأزمنة، والكائنات العجائبية ذات الطبيعة الضوئية، كما في روايتها "توالي".

ولن تكون الحبكة في المستقبل -بحسب الصافي- بمعزل عن نواميس التغيير فالنص في مشروع الكتابة للمستقبل سيعتمد على التشويق، ومخالفة كل ما هو سائد ومألوف؛ بهدف مواكبة آلية العصر ونمط الحياة المتأثرة بالثورة الصناعية الرابعة، وستكون الثيمة الرئيسية للنص وموضوعته رهينة بالقضايا السائدة حينها.

وسيستخدم مفهوم الزمكان في الكتابة مستقبلا تطبيقات تجعل الزمان والمكان عنصرين قابلين للتشكيل وخدمة النص. فـ"الزمن يحتمل أن يكون في النص الواحد أكثر من حقبة" وربما تتغير "كرونولوجية" الأحداث وتتكسر بنية التعاقبية، وتتنوع ما بين الثواني والقرون داخل النص الواحد، والتسلسل الزمني ليس بالضرورة أن يكون من الماضي للحاضر أو العكس".

أمّا المكان فقد يكون متعارف على تفاصيله أو متخيّل بخصائص أقرب للفنتازيا والواقعية السحريّة.

ستعتمد تقنيات السرد في مشروع الكتابة للمستقبل - بحسب وجهة نظر الصافي- على عنصري التشويق والمفاجآت التي تخالف التوقعات مع تسلسل المشاهد، ومن الممكن جدا أن تبدأ الأحداث بلا عقدة، أو تنتهي بلا حل، أو أن يظل حل العقدة خفيا وغير مباشر أو على شكل فكرة أو رؤية جديدة للعقدة تكون في حد ذاتها حلا. وربما تتواجد في مرحلة ما من مراحل النص أكثر من عقدة؛ كما في رواية "جميل نادوند" التي استخدمت فيها آن الصافي تقنية إظهار العقدة في بداية النص، وبعد أن تسير الأحداث وتتسلسل تظهر عقدة أخرى؛ وتتبدى البراعة في قدرة الكاتبة على تسيير العقدتين معاً إلى نهاية النص.

وتصف آن لغة الحوار بين شخوص الرواية في مشروع الكتابة للمستقبل بالاقتضاب والرموز المُعبرة، والبُعد عن الإسهاب والتكرار ما أمكن بشكل يخدم النص ويبعده عن الترهل، مع تجنّب العامية حتى يصل الخطاب إلى أكبر كم من المتلقين، ومراعاة تعدد مشاربهم الثقافية.

في عصر النانو تكنولوجي هذا لن يكون غريبًا أن تصادفك كلمات على شاكلة انستغرام وتويتر وفيس بوك وغيرها من مفردات العصر بين ثنايا النص الروائي، وربما تظهر الأحداث والشخصيّات متأثرة بما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي. وستفترض الرواية مستقبلا بداهة إجادة المتلقي لاستخدام قنوات ومنافذ المعرفة وطرق نشرها الإلكترونية، وبتقنيات بارعة تربط العالم الافتراضي بالواقعي وربما حتى محو الواقع وإحلال الافتراضي مكانه بكل بساطة كما هو الحال في الرواية الرقمية أو الإلكترونية أو الافتراضية والتي يعرفها د. محمد القواسمة بأنّها الرواية التي تُقرأ من خلال تحميلها مباشرة على الحاسوب، ويتكوّن عالمها الافتراضي من الكلمة، والصورة، والصوت، والمؤثرات الحاسوبية البصرية والسمعية. ويقول حولها: "صار الروائي يجمع بين مهارتين: مهارة الإبداع، ومهارة اتقان استخدام التقنيات الحاسوبيّة. بهذا يمكن أن ندعوه الروائي الرقمي؛ لأنّه يتخذ من بيئة الحاسوب والإنترنت مجالا للتصميم والتشكيل، ولا يمكن قراءة عمله إلا من خلال الحاسوب" ومثال عليها روايات "شات" و"صقيع"، و"ظلال العاشق" للكاتب محمد سناجلة؛ الرائد في هذا المجال على المستوى العربي. والذي يقول إنّ العصر الرقمي يخلق كاتبه، وقارئه، وناقده؛ لأننا أمام عصر جديد، وعالم جديد مختلف عن العصر الورقي والثقافة الورقية.

الكتابة للمستقبل عند الروائية آن الصافي صاحبة روايات "كما روح"، و"فلك الغواية"، و"توالي"، و"قافية الراوي"، و"مرهاة" يجب أن تهتم بعوالم المعلوماتية وثورة الاتصالات، وقضايا إنسان اليوم مقرونا بصياغة واستشراف المستقبل، وعلى الرواية توظيف المخيال وربطه بالواقع، علاوة على ضرورة أن يتوسل الكاتب بما يقدمه العلم والدراسات والأبحاث في شتى المجالات؛ مع الأخذ في الاعتبار مواكبة علم النفس وعلم نفس المجتمع وكل ما يساعد على فهم مسار الحضارة الإنسانية.