"لا أحد يريدهم"

 

محمد علي العوض

 

..."كان ملح البحر في لحاهم وشعورهم، وكانت حقائبهم تقطر ماءً، وكانت الأمهات تبحثن عن مكان يقضي فيه أطفالهن حاجاتهم... أستطيع أن أتخيّل شيئاً من هذا في مخيم للاجئين في إفريقيا، لكن ما حدث كان هنا في أوروبا.. لماذا يُمنع هؤلاء الناس..؟ الجزيرة بأكملها تغص بالسياح الذين يتناولون البيتزا على بعد عشرين متراً منهم، ويضعون زيتاً واقياً من الشمس"..

هكذا تسرد الكاتبة الهولندية ليندا بولمان معاناة جحافل اللاجئين في جزيرة ليسبوس اليونانية في كتابها الصادر عام 2019 والذي اختارت له عنوانا صادمًا "لا أحد يريدهم.. أوربا واللاجئون" والمقتبس من مقال نشر في صحيفة فولكيشر بيوباختر الألمانية - الناطقة باسم الحزب النازي آنذاك عام 1938- إثر انتهاء اجتماع اللجنة الحكومية الدولية المعنية باللاجئين السياسيين.

تقتفي بولمان في مؤلفها أثر الاستراتيجية الأوروبية في ما تسميه بالحرب على اللاجئين (والمهاجرين غير الشرعيين)، بدءا بمدينة إيفيان الفرنسية عام 1938 حيث أول حملة دولية حول أزمة اللاجئين، ومنها إلى معسكرات اللاجئين في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تمر في تتبعها التاريخي هذا على "الجيوب الآمنة" في البلقان في التسعينيات، ومخيمات اللاجئين الضخمة في إفريقيا خلال الحرب الباردة، ومنها إلى جزيرة ليسبوس اليونانية التي باتت مركزا للاجئين الفارين من الحرب في سوريا والعراق وأفغانستان. ولم تنس بولمان أن تسرد حجج حكومات أوروبا الغربية حول عدم السماح باستقبال اللاجئين؛ على شاكلة "اللاجئين لن يكونوا متوافقين مع المعايير والقيم الوطنية"، "سيأخذون الوظائف والمنازل"، "سيهددون الأمن القومي والنسيج الاجتماعي".. واصفة إيّاها بأنها ذات الحجج القديمة التي تلوكها ألسنة الحكومات الأوربية منذ قرابة قرن.

في أحد فصول الكتاب تستعرض المؤلفة الصفقات التي عقدتها أوربا مع البلدان المغاربية، والصومال، وإثيوبيا، والقذافي، والبشير في السودان تحت مسمى "تدفق الهجرة غير الشرعية". والطريف أنّ مسمى اتفاقية السودان (مبادرة طريق الهجرة عبر القرن الإفريقي إلى أوروبا) هو الأطول من بين جميع مسميّات الاتفاقيات كما وصفه الكاتب أمجد فريد في مقالة له عام 2017 بصحيفة التغيير الإلكترونية، وسطّر فيها أنّ الأمر لا يتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر أو تهريبهم، فهذه أطباق جانبية تسبق الوجبة الرئيسية؛ وهي محاربة الهجرة؛ وبلفظ أدق "اللجوء الإنساني" القادم من القرن الإفريقي، وأنّ أوروبا لم تتوانَ عن استخدام أنظمة قمعيّة مثل نظام البشير لحماية حدودها من تدفق اللاجئين السود، فالاتحاد الأوروبي اختار أن يتجاهل الحقيقة الواضحة البسيطة بأنّ قمع نظام الخرطوم والأنظمة المشابهة له هو ما يدفع هؤلاء اللاجئين إلى المخاطرة بحياتهم ومحاولة الفرار.

قريب من هذا ما ذهب إليه الصحافي جيروم توبيانا في تقريره المنشور بموقع "فورين بوليسي" تحت عنوان "الرجل الذي روّع دارفور هو من يقود العملية الانتقالية المفترضة في السودان" – في إشارة إلى حميدتي قائد قوات الدعم السريع والرجل الثاني في المجلس العسكري الانتقالي- حيث كتب أنّه في عام 2016 بدأت قوات حميدتي بمحاربة تدفق المهاجرين واعتراضهم من السودان أو بقيّة دول القرن الإفريقي قبل وصولهم إلى ليبيا، وعرضهم على الشاشات المحلية لإقناع الأوروبيين أنّهم الأشخاص المناسبين للمهمة؛ الأمر الذي يعضد ما طرحته بولمان؛ وهو أنّه بعد نشوء الاتحاد الأوروبي تمت عسكرة الحدود الخارجية، ودفع ملايين اليوروهات لإثيوبيا والسودان والصومال وأوغندا وغينيا والجزائر وتونس والمغرب والأردن وتركيا لمراقبة الحدود ومنع تدفقات المهاجرين بغض النظر عمّا إذا كان هؤلاء الأشخاص يحق لهم الحصول على وضع لاجئ أم لا.

تتظاهر أوربا بالبراءة وألا ناقة لها ولا جمل في الحروب الدائرة في دول العالم الثالث؛ فبحسب كتاب بولمان "لا أحد يريدهم.. أوربا واللاجئون" أنّه بنهاية الحرب الباردة كان هناك ستة وثلاثون صراعًا مسلحًات كان للدول الأوروبية وأمريكا أدوار فيها جميعاً؛ إمّا بدعم تلك الحروب سياسيًا أو ماليًا، أو يبيع أسلحة للأطراف المتحاربة، أو مساعدة الحكام الديكتاتوريين على البقاء في السلطة. وتضيف أنّ الزعماء السياسيين الأوروبيين (والأمريكيين) يتحدثون دائماً عن اللاجئين الخارجين من الفوضى باعتبارهم مشكلة معزولة، لا نتيجة طبيعية لسياستهم الخارجية. مشيرة لتهديد القذافي لأوروبا عند بدء الانتفاضة الليبية في فبراير 2011 "بملايين" اللاجئين الذين سيحاولون العبور إلى إيطاليا إذا تخلت عنه أوروبا أو وقعت ليبيا في الفوضى.

ما توقعه القذافي حدث بحذافيره. فقد كشفت المنظمة الدولية للهجرة عام 2017 عن أنّ هناك مهاجرين أفارقة تدفع أوروبا لأمراء الحرب الليبيين لحجزهم في مراكز؛ وأنّهم يجبرون على العمل بالسخرة علاوة على تعرّضهم للتعذيب والاغتصاب حتى يتم إجبار عائلاتهم على دفع فدية، وإلا سيتم تحويلهم إلى عبيد وبيعهم في أسواق النخاسة بالمدن الليبية.

وتتضح فظاعة المأساة أكثر في تعليق كارل كوب من منظمة "برو أزول" على دراسة أجرتها الباحثة "سارة شينوويث" من "لجنة النساء اللاجئات" كشفت فيها عن تعذيب المهاجرين في "معسكرات يموّلها الاتحاد الأوروبي"؛ يقول كوب إن نتائج الدراسة ليست جديدة، لكنّ حجم المأساة وتفاصيلها مخيفة.. الانتهاكات تحدث من خلال شركاء للاتحاد الأوروبي.. خفر السواحل الليبي يعترض اللاجئين ويعيدهم إلى معسكرات التعذيب؛ المهربون يستخدمون التعذيب لتعويض انخفاض أرباحهم بسبب مراكز الاحتجاج. ويضيف: "لقد شهدنا أحداثًا مماثلة في سيناء، حيث تمّ ابتزاز عائلات نساء من إريتريا غير أنّ المعسكرات في ليبيا هي معسكراتنا؛ معسكرات ممولة أوروبيا لحكومات معترف بها، حيث تقع أسوأ انتهاكات لحقوق الإنسان.. يتم ذلك باسم أوروبا ويشكل جزءًا من الاتفاقيات المبرمة مع ليبيا التي تعيش حربا أهلية... الاتحاد الأوروبي لم يهتم كثيرًا بإغلاق هذه المعسكرات التي يمكنه الوصول إليها وتحرير الأشخاص، ويمول المجرمين الذين يطلقون على أنفسهم اسم خفر السواحل، ونقول بوضوح إنّ هذا جزء من سياسة اللاجئين الأوروبية".