سؤال النهضة

فوزي عمار

سال حبرٌ كثير حول عنوان المقال، وهو سؤال النهضة، ولماذا تقدم الغرب وتأخر العرب، ومنذ مالك ابن نبي

وحتى الآن، وبما أن السؤال ما زال قائما؛ فهذه مشاركة متواضعة كأحد المهمومين بقضاينا الراهنة.

اُطلق اسم عصر النهضة على فترة زمنية استمرَّت من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر، وكانت بدايتها في أواخر العصور الوسطى من إيطاليا، ثم أخذت في الانتشار إلى بقية أرجاء أوروبا، تخللتها حركة ثقافية وفنية، إضافة للتطور الصناعي.

واكب هذا التغيُّر تحول من مجتمع السكون إلى مجتمع المخاطرة، سمة عصر التغيرات الكبري حيث وضع المفكر الألماني أوريش بك مصطلح  "مجتمع المخاطرة"، الذي جاء بعد الثورة الصناعية في أوروبا والتحول إلى الفردانية ونهاية عصر الإقطاع الذي فصل الدين عن الدولة.. طبعا المقصود هنا هو الدين الكنسي الذي تحالف مع الإقطاع واستعبد الإنسان، كل هذا تجاوز العقل الجمعي، ونشأت الظاهرة الفردانية.. وهذه ببساطة حقيقة التغير الذي حدث في أوروبا ودخول عصر الصناعة والنهضة.

الظروف الطبيعية والصيرورة قادت لتسلسل زمني للتغيير الطبيعي في أوروبا، وبالمقابل كل محاولات التغير عندنا جاءت قصرية وبالقوة، وهنا المشكل، تحول في النمو الاقتصادي دون تنمية، مطالبة بالديمقراطية دون الدخول في العصر الصناعي، مطالبات بالحرية دون التخلص من الأبوية.

النهضة -من وجهة نظري- مُرتبطة بالتنمية المستدامة، والاستدامة شرطها الرئيس القدرة على التعامل مع المتغيرات والاهتمام بالتعلم بالإضافة للتعليم، تعلم يقود للتفكير في حل المشاكل التي تواجه الدولة والمجتمع ويكرس روح المبادرة، وغياب مشروع حداثة حقيقي يقوم على التغيير الواعي وليس تغيير الطفرة، والذي كان هو المعضلة الحقيقية عندنا كشعوب عربية.

وكل مُفكري الحداثة عندنا تقريبا انتقدوا ونسفوا المشاريع القائمة، دون إعطاء بديل لمشروع فكري يصمد أمام النقد، ويحقق واقعًا يُمكن الاستناد إليه والبناء عليه.

عندما كتب الكاتب الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما أستاذ العلوم السياسية وأحد أهم مفكرين المحافظين الجدد كتابه "نهاية التاريخ"، قامت الدنيا ولم تقعد لهذا الكتاب الجدلي الذي أراد به الكاتب الأمريكي الوصول لنتيجة هي سيادة النموذج الأمريكي للسياسة والاقتصاد في العالم. ولكني أري الموضوع من جهة أخري هو أن الأقرب للحقيقة أنَّ العالم يتجه لنهاية الجغرافيا وليس نهاية التاريخ.

فاليوم -خاصة في العالم الغربي من أمريكا وكندا إلى الاتحاد الأوروبي الذي يجمع معظم دول قارة أوربا- لم يعد للجغرافيا معنى؛ فتجد من يولد في ستوكهولم وينتقل للعيش أو للتقاعد في إسبانيا أو اليونان.

لم يعد للشركات العابرة للقارات overseas مقر رئيس؛ فجنة الضرائب هي أرضها، ومفهوم ما بعد الدول post state ترسخ، فأنت تنام في قطار من روما حتي كوبنهاجن أو وارسو ولا يُوقظ مضجعك شرطي جوازات يبحث عن تأشيرة.. ثورة الاتصالات قصة أخرى تصب في صالح نظرية نهاية الجغرافيا فلم تعد تحتاج إلي مقر بل فقط عنوان إلكتروني مجاني على أحد محركات الإنترنت مثل: Gmail، Yahoo، وHotmail.. وغيرها.

كما أن تحويل الأموال وحجز الفنادق والتذاكر أصبح متاحًا عبر جهاز محمول ذكي في حجم كف اليد، كل ذلك نتائج ثورة العقل في مجال الاتصالات واكبت تطلعات البشر من حرية.

تماما مثل نتائج انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي إبان الثورة الفرنسية التي حرَّرت الإنسان.. اليوم الثورة العلمية الثانية التي قضت علي الجغرافيا وحدودها ليعيش العالم الحر في نهاية الجغرافيا، التي توحِّد المركز وتفتت الأطراف، ولا عزاء للشعوب المتخلفة التي تعيش خارج التاريخ والجغرافيا.

جانب آخر انتهي مثل انتهاء الجغرافيا؛ وهو التقسيم الطبقي الاجتماعي، فعندما تحدَّث ماركس عن الوعي الطبقي كانت الشعوب تعيش في حالة تقسيم طبقيا أفقيا؛ حيث العمال وأصحاب العمل والنبلاء، كل ذلك تلاشي مع عصر جديد، عصر حداثة أصبح فيه التقسيم عموديا وليس أفقيا من وجهة نظري، بمعني أن تجد طالبا في درجة الدكتوراه وهي أعلي درجة علمية يعمل نادلا في مطعم أو حاملَ حقائب في فندق في مرحلة محددة، ليستطيع أن يدفع ثمن دراسته الجامعية وتخصصه الدقيق في الطب أو الفيزياء أو الاقتصاد أو القانون.

فلم يعد مُمكنا تصنيف هذا العامل أنه من طبقة البروليتاريا المسحوقة وهو قريبا سيصبح أهم من صاحب العمل نفسه، وهذا الطالب لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يصنف بأنه من طبقة العمال المصنفة في عهد ماركس. بل أصبح الطالب مالكا للسلطة من خلال المعرفة كما قال المفكر البريطاني عالم الاجتماع آلفين توفلر في كتابه تحول السلطة "المعرفة والعنف والمال مقومات السلطة الثلاثة".

كما أن التقدم التقني -خاصة في مجال الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي- خلقتْ نوعًا من التواصل المباشر مع المتلقِّي عبر الحدود دون المرور بحارس البوابة "الشبه أمي"، فأصبح إرسال كتاب ومجلد في لمح البصر عبر الإنترنت.

وهذه الثورة غيَّرت مفهوم السيادة وأصبحت السيادة مدى تأثيرك في الآخرين، ومدى ثأترك بهم، ثورة الاتصالات خلقت نوعًا من الاقتصاد يُسمَّى بالاقتصاد التشاركي، وهو مثل مشاركة مالك السيارة وقت فراغه في عمل يدر علي دخل، بغض النظر إن كان صاحب السيارة متعلمًا أم لا. وهي تجربة شركة أوبر Uber في أمريكا وأوروبا، وحتي شركة airbnb ايضا.

كما أصبح في قدرة العامل أن يمتلك أسهما في الشركة التي يعمل بها ولم يعد عاملا فقط بل عامل وشريك في نفس الوقت، بل الكثير من المهن أصبحت تدار بربوت وليس عاملا، كل هذه التغيرات جعلت علماء الاجتماع يصنفون هذا العصر بعصر الحداثة المتأخرة علي رأي عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جودنز.. عصر الحداثة المتأخرة، ربط الإنسان بالتقنية التي حرَّرته من سلطة الإقطاع، ولاحقا سلطة الدولة، وأصبح يعيش الإنسان في اللا مكان؛ فلم يعد المكان ذا قيمة بعد نهاية التاريخ ونهاية الجغرافيا ونهاية التقسيم الطبقي، كل هذه المتغيرات تتطلب تعاملا مستمرا ومستداما يقود لتحقيق تنمية مستدامة تقود لبرنامج النهضة، ويعتمد برنامج النهضة لأي بلد على ثلاثة مشروعات رئيسية: المشروع الثقافي وتوطين المعرفة وتوظيف التقنية؛ فالمشروع الثقافي لابد أن يحض على العمل والابتكار والسلم المجتمعي والابتعاد عن العنف والتكفير والكراهية، وهذه مسؤولية الخطاب الديني؛ فالدين هو عقيدة المؤمن، وحضارة لغير المؤمن يعيش في البلد في أمن وأمان، مشروع ثقافي يضمُّ العرب في كيان اقتصادي واحد؛ فنهضة الدولة وراءها الأمة؛ فنهضة ماليزيا كان وراءها الأمة الماليزية، وإندونسيا كذلك، وحتى تركيا. مشروع ثقافي يحض على العمل المستمر والدائم، يترجم كلمة الفلاح التي نسمعها خمس مرات يوميا إلى واقع وعمل مثمر ومستدام. قال صلى الله عليه وسلم: "لوقامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فلا يقم حتي يغرسها".

مشروع ثقافي يحارب الفساد، ويجعل مرتكبه منبوذا، حتي وإن كان من سادة المجتمع، مصداقا لقول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". فالفساد هو البالوعة التي تتسرب فيها أموال الدولة دون استفادة، ويخلق حالة من الغبن التي تقود كثيرا للعنف والجريمة وحتي الثورة.

أمَّا توطين المعرفة، فيبدأ من البحث والتطوير في كل القطاعات ما يسمي (R&D) لفهم الإطار النظري والأساس المنهجي لطبيعة الأشياء؛ فالعلم جاء باحثا عن الحقيقة.

وأخيرا.. توظيف التقنية التي تقلل الفساد والتعامل مع البشر، وتقليل الزمن، وتقليل السعر، ورفع الفاعلية والكفاءة للمنتج والمؤسسة.

تعليق عبر الفيس بوك