اللغة بين السيادة والسياسة (3)

 

علي بن مسعود المعشني

 

اليوم العالمي للغة العربية

تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من شهر ديسمبر كل عام. ففي هذا التاريخ من عام 1973، اعتمدت الجمعية العامة اللغة العربية لغة عمل رسمية، لتكون بذلك إحدى اللغات الست التي تعمل بها الأمم المتحدة، وهي: العربية والإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية. ويحتفل النادي العربي في الأمم المتحدة سنويا بهذه المناسبة من خلال البعثات الدبلوماسية العربية، فيقيم معرضا للكتب والأعمال الفنية للدول العربية المشاركة في هذا الاحتفال، فضلا عن إقامة حفل منوعات يشتمل على الكلمات والشعر وفقرات متنوعة من الفنون الشعبية العربية. (نقلا عن موسوعة ويكيبيديا بتصرف)

في سلطنتا العزيزة نصت المادة (1) من النظام الأساسي للدولة على: "سلطنة عُمان دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة تامة عاصمتها مسقط". فيما نصت المادة (2) على: "دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع". ونصت المادة (3) على: "لغة الدولة الرسمية هي اللغة العربية".

بينما نصت المادة (17) من الباب الثالث (الحقوق والواجبات العامة) على: "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو (اللغة) أو الدين أو المذهب أو المواطن أو المركز الاجتماعي".

من الطبيعي جدًا إن سلطنة عُمان دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، وأنّ الإسلام دين الدولة والشريعة هي أساس التشريع. وبما أنّها دولة عربية إسلامية فمن الطبيعي كذلك أن لغتها العربية وأن للعروبة والعربية ومشتقاتهما الحضور والاحترام الكبيرين (كما يُرجى ويُفترض). ولكن ما ليس بطبيعي في المادة (17) أن يكون هناك عُماني له لغة غير العربية، وأن يُعتبر ذلك حق دستوري!! بينما من بديهيات الجنسية في جميع بلاد العالم أن يكون حامل الجنسية مجيدًا للغة البلد الذي ينتمي إليه وتاريخه كذلك كشرط أساس من شروط التجنيس، أمّا مسألة الدين واكتساب لغات أخرى والمذهب والأصل واللون والجنس والموطن والمركز فلا خلاف عليها، فمن الطبيعي أن نجد عُمانيين يحملون من تلك الصفات ومن الطبيعي أكثر أن يتعايشوا ويتآخوا في هذا الوطن العزيز وأن يحتكموا ويحترموا ثوابته حين يقررون أن يكونوا عُمانيين صادقين.

وما ليس بطبيعي ولا معقول كذلك، ألا نجد ترجمة حقيقية وصادقة للمواد الثلاث على أرض الواقع، وعلى رأسها اللغة العربية، كونها الأكثر تجاهلاً وجهلاً، وكونها حاضن الدين والمجتمع وصمام أمنه ومن مكونات سيادة الدولة.

يقول علماء اللسانيات بأن جميع اللغات في العالم مهددة بالزوال إلا ثلاث وهي: الإنجليزية بحكم التكنولوجيا والصينية بحكم الديموغرافيا (السكان) والعربية بحكم الأيديولوجيا (ارتباطها بالدين).

حيث لا توجد ديانة تُعبد بلغتها إلا الإسلام (باللغة العربية) من بين الديانات السماوية ولهذا حفظ كل منهما الآخر.

وحين نقول بأن التطرف زادت وتيرته وحمى وطيسه بسبب الجهل باللغة العربية مفتاح الدين وحاضنه، فلا مبالغة في ذلك، حيث استشكل على الناس فهم الآيات والأحاديث بفعل هجرهم اللغة العربية فنبت التطرف وعم الجهل بالدين بصور مرعبة رأسية وأفقية. وحين نقول بأن الوطنية والأخلاق والتفكير الإبداعي في خطر كبير، فلا مُبالغة في ذلك فالشواهد أمامنا كالأرز البسمتي ومرد ذلك وأساسه إلى جهل اللغة وتجاهلها كحاضنة ثوابت وقيم وآداب وإستدلال ونقل وعقل!!

من هنا فإنّ الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية والعودة إليها، ليست دعوة عاطفية، بل دعوة عقلية في الصميم لفهم الدين وصون الثوابت والنهوض الحضاري وللحفاظ على تآخي المجتمع ومكتسباتة ولحمته. فعلماء التربية وعلم النفس يؤكدون بأنّ التلميذ الذي لا تُغرس فيه قيم الأخلاق والوطنية والثوابت ويُنمى فيه التفكير الإبداعي بلغته الأم وفي سنواته الأولى (الإبتدائية)، لا يُرجى منه نفعًا أخلاقيًا أو تفكيرًا إبداعيًا نافعًا أوغيرة على ثوابته أو نزعة وطنية تجاه مجتمعه أو وطنه وأمته لاحقًا، حيث سينظر إلى منظومة تلك القيم من باب العاطفة فقط- أحب وأكره- لا من باب العقل والقداسة كنظرائه في المجتمعات الأخرى.

لهذا تمنع العديد من البلدان الحية الفاعلة مزاحمة التلميذ بأي لغة أجنبية في مراحل تعليمه الأولى كي لا تُربك تشكل وعيه ووجدانه وغرسه في تلك المرحلة الحساسة والتي يتشكل فيها رجل المستقبل، بينما نحن نتهافت على الخدم الناطقين باللغة الإنجليزية كي يرضع أطفالنا الحليب والتغريب معًا!! وحضانات ومدارس ثنائية اللغة!! وإن سلم تأتي التربية بمعولها لتهدم هذه الخامة الطاهرة، وتثقل عليه باللغة الإنجليزية بزعم قدرية اللغة الإنجليزية وحاجة سوق العمل ولولوج الفضاء سريعًا!! فنجد أنفسنا أسفل السافلين بعد كل تلك التنازلات المجانية والهرولة الرخيصة، حيث لا مُخرجات نافعة، ولا أخلاق حميدة، دون أن يُحفزنا ذلك إلى إجراء أي تقييم أو مراجعة، بل كل ما نقوم به هو زيادة جرعات اللغة الإنجليزية والتقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والتربية الوطنية والفلسفة والتربية الفنية بزعم النهوض بالمخرجات، وجميع تلك المواد - والمُصنفة بالهامشية- لو فُهم مقاصدها وأحسن تدريسها لكنا في أحسن حال، كونها تُمثل مفاتيح التطور والرقي بمفاهيمها الشاملة.

نحن في أمس الحاجة إلى السيطرة على الأرض قبل الفضاء والعربية قبل الإنجليزية والإنسانيات قبل التكنولوجيا كي نستعيد حواسنا ورشدنا وصوابنا. فليت الحكومة تستطلع لتعرف كم عدد الذين أرهقوا باللغة الإنجليزية في مراحل التعليم ثم توجهوا للدراسة الجامعية في بلدان عربية أو تخصصات لا تحتاج إلى اللغة الإنجليزية أو بلدان ناطقة بغيرها في تحصيلهم الجامعي، لنعلم حجم التخبط الذي نعيشه.

من يزور السلطنة ويستمع إلى المذياع والمذيع من خلاله يصحح للناس: لا تقل مطبات بل قل ممهلات أو كاسرات للسرعة، لا تقل ميكرفون بل قل ناقل الصوت، لا تقل راديو بل قل مذياع... إلخ. سيخرج بانطباع أولى بأنّ هذا البلد يديره مجمع لغة يقوده الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأنّ العروبة والعربية ومشتقاتهما لا مساومة عليهما. وبعد حين سيصاب بالصدمات حين يرى اللغة الإنجليزية في الصدارة واللغة العربية حال علوم وأخبار فقط!! فما الحكمة من كتابة أسماء الوزارات باللغة الإنجليزية في بلد عربي؟ هل هي مزارات سياحية أو تراث إنساني مصنف من قبل اليونسكو؟ وما الحكمة من كتابتها على الأوراق الرسمية والأختام التي تستخدم داخل السلطنة؟!