مجلة "الذاكرة".. ضيف صحافي جديد

 

زاهر بن حارث المحروقي

إنجازٌ جديد يُحسب لمكتبة  "ذاكرة عُمان"، وهو صدور العدد الأول من مجلة "الذاكرة" التي تصدُر عن المكتبة؛ وهي مجلةٌ فصلية تصدر كلَّ ثلاثة أشهر، تُعنى بالدرجة الأولى بالتراث الفكري العماني، من مخطوطات ووثائق، وما يتعلق بالتراجم وتحقيق التراث والفهرسة، وكل ما في حكمها. وقد جاء صدور المجلة في وقت نحن في أمسِّ الحاجة فيه إلى إبراز التراث العماني المخطوط والمطبوع، لتكون المجلة إضافة أخرى إلى الجهود التي تقوم بها وزارة التراث والثقافة، وكذلك بعض المكتبات العمانية الخاصة في إبراز ذلك التراث. وتهتمُّ مجلة "الذاكرة" أيضًا بتوثيق المؤتمرات والدراسات والندوات التي تهتم بالتراث؛ لأنّ التوثيق هو الذي يحفظ ذاكرة وتاريخ أيِّ أمة؛ والعمانيون عامة لهم تجارب كثيرة في التأليف والتوثيق وفي الأسفار، وهم الذين وصلوا إلى موزنبيق في جنوب إفريقيا وإلى بكين في أقصى الشرق، وهم الذين ارتادوا البحار والصحاري، إلا أنّ ذلك الجيل قد انقرض وانقرضت معهم تجاربُهم، ولم يبق إلا إظهار ما تم تدوينه من تلك التجارب.

وبنظرة إلى العدد الأول للمجلة -الضيف الجديد على عالم الصحافة العمانية- نجد أنها تركز على نشر الأبحاث والمقالات التي تتناول قضايا التراث الفكري بالأسلوب العلمي، مع التركيز على ذكر المراجع وفقًا للمنهج العلمي، كما تهتم بخزائن الكتب عبر المكتبات العامة والخاصة، والفهارس التي تتناول أوعية المعرفة في المكتبات، خاصة ما يتعلق بالمخطوطات العمانية؛ سواء في عُمان أو في المكتبات العالمية. وأهمية مجلة "الذاكرة" لا تكمن في أنها مجلة توثيقية فقط؛ فأهميتُها تأتي كذلك من رسالتها؛ وهي الرسالة التي آمن بها شباب مُتحمِّسون وغيُورون على التراث الفكري العماني، عندما اتَّخذوا قرارًا بإنشاء مكتبة "ذاكرة عُمان"؛ وهي المكتبة التي تُعنى بنشر باقة متنوعة من الكتب، بعضها كتب مخطوطة، تدخل مختبر التحقيق فتنشر لأول مرة، وبعضها فهارس لخزائن ومكتبات، وبعضها تراجم لكتب، وأوراق عمل لندوات علمية... وغيرها. وقد بلغ عدد الكتب الصادرة عن المكتبة حتى الآن، 127 كتابًا؛ من بينها: 15 كتابًا صدرت هذا العام فقط، وعُرضت في معرض مسقط الدولي للكتاب، وهي الإصدارات التي تميّزت بنشر جزأين من "سلسلة فهارس ذاكرة عُمان لمخطوطات الخزائن العمانية"، ولأول مرة من مدينة نزوى؛ وهما: "فهرس مخطوطات خزانة وقف بني روح"، و"فهرس مخطوطات خزانة وقف بني سيف"، وكذلك دشنت المكتبة الجزء الأول من "سلسلة عُمان في ذاكرة الصحافة"، بعنوان "رحلة إلى مسقط"، هذا غير صدور كتاب "حركة الطباعة العُمانية وأثرها في التواصل الحضاري" لمجموعة من الباحثين، بتحرير كلٍّ من: الدكتور وليد فكري فارس، والدكتور صالح بن سليمان الزهيمي، والشيخ سلطان بن مبارك الشيباني، وهو الكتاب الذي يرصد حركة طباعة الكتب العُمانية، ويوثق شهادات وتجارب لبعض من اشتغل بها، ويعرّف ببواكير المطبوعات العُمانية. وقد شهد جناح "ذاكرة عُمان" في معرض مسقط الدولي للكتاب في شهر فبراير الماضي إقبالا كبيرًا، خاصة من الأخوة الخليجيين من الإمارات وقطر بالذات، الذين اقتنوا كمياتٍ كبيرة من تلك الإصدارات، لدرجة أني سألت أحد القائمين على البيع: في اعتقادك، ما هو سر تهافتهم على شراء هذه الإصدارات؟!

وإذا كنتُ في مقالي هذا أرحِّب بصدور العدد الأول من مجلة "الذاكرة"، فإني أؤكد أنه من الخطأ التركيز على الماضي، دون الاهتمام بالحاضر والمستقبل؛ فالاهتمامُ بالماضي يجب أن يكون مفتاحاً وحافزاً لبناء الحاضر والمستقبل. ويأتي في مقدمة الاهتمام بالماضي بذل الجهود لجمع وطباعة المخطوطات العمانية بتحقيقات عصرية من قبل مختصين، وإخراجها الإخراج اللائق حتى تكون في متناول الجميع؛ لأنّ هذه المخطوطات هي ذاكرة عُمان الحية عبر التاريخ. ومبادرةُ "ذاكرة عمان" هي المبادرة الأبرز الآن في هذا المجال، وهي مؤسسة أهلية علمية ثقافية غير ربحية، مسجلة لدى وزارة التراث والثقافة، تُعْنَى برصد الذاكرة العمانية على تنوُّع روافدها، واحتواء المُنْجَز الفكري العُماني على اختلاف أوعيته.

سبق لي وأن أشرتُ -عبر هذه الجريدة- إلى أنَّ مبادرة "ذاكرة عُمان" في إحياء التراث العماني وتقديمه لعامة الناس، هي مبادرة جاءت في وقتها؛ ففي الوقت الذي تشير فيه بعض المصادر إلى أنّ عدد المخطوطات في عُمان يزيد على 60 ألف مخطوطة؛ موزعة بين المكتبات الخاصة والعامة وبعض المؤسسات الثقافية، فإنّ الكثير من المخطوطات العمانية في الخارج فُقدت أو في طريقها إلى الفقد، بسبب الإهمال في هذا الجانب؛ ممَّا أغرى الآخرين باستغلال هذا الظرف، وأرى أنّ مساندة مبادرة "ذاكرة عمان" هي مساندة واجبة من قبل الجهات الرسمية والخاصة ومن الأفراد؛ فالوثائقُ تحتاج إلى صيانة وترميم، و"ذاكرة عمان" -حسب القائمين عليها- لا تملك القدرات والإمكانات اللازمة لترميمها، وتتعاون في إطار محدود مع بعض الجهات المعنية في السلطنة لتحقيق ذلك، ومع ذلك فهي تسعى لتخصيص مساحة جيدة لمعمل ترميم يتولى هذه المهمة في المستقبل عندما تتحسن الظروف المادية.

وإذا كانت "ذاكرة عمان" في الأصل مبادرة أهلية غير ربحية، فإنّها تشير إلى أنّ بإمكان المواطنين أن يقوموا بمبادرات كثيرة بدلاً من الانتظار من الدولة أن تقوم بذلك، رغم أنّ هذا من صميم عمل المؤسسات الثقافية الرسمية، فيكفي ما ضاع من تراثنا وتاريخنا وفنوننا عبر السنوات الماضية، ويكفي ما تم من تبادل التهم حول التقصير في تلك السنوات، ففي النهاية التراث هو ذاكرة الشعوب التي لا تُمحى، فيجب ألا يُنسى، والمسؤوليةُ في المحافظة عليه مسؤولية مشتركة. يرأس تحرير مجلة "الذاكرة" محمد بن عامر العيسري، ويدير تحريرها الدكتور صالح بن سليمان الزهيمي، وهما من مؤسسي "ذاكرة عُمان"، مع سلطان بن مبارك الشيباني، ومحمود بن عبدالله الصقري، وكلهم من الباحثين والمهتمين بالتراث والتوثيق والتحقيق.