الديمقراطية في الفكر السامي لجلالة السلطان

 

حميد بن مسلم السعيدي

الديمقراطية هي منهجية الحياة، ونظام الحكم، وإدارة المؤسسات، وأسلوب التعامل مع الآخرين، وحرية التعبير عن الرأي، والعيش في نطاق المسؤولية المشتركة، وكلما كانت هذه المنظومة العملية قائمة على مبادئ الديمقراطية العميقة، كلما كنا أكثر مقدرة على بناء المستقبل، والعيش في إطار الشراكة الحقيقية بين المواطن والدولة، بعيداً عن التسلط والبيروقراطية، وهذه هي منطلقات الديمقراطية التي تمثلت في الفكر السامي لجلالة السلطان قابوس والتي أرادها لهذا الوطن أن تتواجد في كافة جوانب حياة المواطن انطلاقًا من أهمية توفير حياة إنسانية للمواطن العماني، "لقد كفلت قوانين الدولة وأنظمتها لكل عماني التعبير عن رأيه والمشاركة بأفكاره البناءة في تعزيز مسيرة التطور التي تشهدها البلاد في شتى الميادين ونحن نؤمن دائما بأهمية تعدد الآراء والأفكار وعدم مصادرة الفكر" قابوس بن سعيد.

لذا فإنّ هذا التأطير الديمقراطي الذي جاءت به التوجيهات السامية، ينبغي أن يتمثل في واقع نعايشه في حياتنا وعلى المواطن أن يدرك المعنى الحقيقي لعدم مصادرة الفكر وتعدد الآراء، في ظل النظام والقانون الذي كفل للمواطن أن يقوم بدوره وواجبه الوطني، وألا يحتكر فكراً ما قد يكون له الأثر في تطلعات المستقبل، وأن تكون كلمة الحق هي شعار على جبهة كل مواطن في سبيل معالجة العديد من القضايا والإشكاليات التي تحدث في المؤسسات أو المجتمع، هذا التوجيه السامي يمنح الفرصة للمواطنين أيا كانت مواقعهم الوظيفية أن يكونوا يد القانون والنظام وحماة الحق في المؤسسات من أجل تحقيق العدالة والمساواة، ووضع النظم موقع التنفيذ والعطاء، من أجل أن تقوم هذه المؤسسات بواجبها، حيث إنّ صناعة الديمقراطية في العمل الحكومي والمؤسساتي ينطلق بكيفية تحقيق الشراكة بين المواطن والحكومة، وأنّ المواطن ينبغي أن يكون شريكاً في صناعة القرار، لذا فإنّ تطبيق المسؤولين لهذا المنطق في المؤسسات يدفعهم للاستفادة القصوى من القدرات والإمكانيات البشرية، إلا التفرد بالقرار وممارسة التسلط والاستعباد لا يتوافق إطلاقا مع منهجية الديمقراطية التي نريدها أن تكون في المؤسسات، وهذا يمثل حاجزا أمام معالجة المشكلات التي تعاني منها الكثير من المؤسسات حتى وصل الحال لبعض المسؤولين في الغلو والتعالي أن يرى مؤسسته رجعية لا تتماشى العصر، وغير قادرة على تحقيق متطلبات الوطن، وتضع المواطن أمام العبودية من خلال تمجيد المسؤولين والوقوف أمام مكاتبهم في طوابير من أجل الحصول على حقوقهم، ثم ينصرف من الباب الآخر، ويتركهم باحثين عن أمل آخر من خلال انتظاره بعد صلاة الفجر أمام بوابة منزله في ظرف يبحث عنه المواطن عن معاليه وعن الشيخ ويترجاه أن يرى موضوعه ويحقق مطالبه، وهذا دليل على غياب الديمقراطية، ولو كان النظام والقانون مطبقا بالمؤسسات لما لجأ المواطن إلى موظف أو مسؤول يترجاه أن يمنحه جزءا من حقوقه، لذا فإنّ التوجيه السامي من جلالة السلطان كان واضحا وصريحا، حين وضع المسؤولين موضع الخدمة للشعب فأين ذلك يتحقق؟ "هناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنهم جميعا خدم لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجردوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية، إذ أننا لن نقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سينال جزاء تهاونه بالطريقة التي نراها مناسبة".

إنّ البحث عن الديمقراطية إن لم تكن كسلوك يمارسه المسؤول وواقع يراه المواطن في هذه المؤسسات، فإنّ المسار ينحرف عن تحقيق الأهداف العليا للوطن، وتصبح المصالح الخاصة أحد أعداء الديمقراطية والوطن.

في ظل غياب الديمقراطية بصورتها الحقيقية في بعض المؤسسات، ينبغي للمجالس البرلمانية أن تقوم بدورها وواجبها الوطني، كأحد أركان الديمقراطية في دولة المؤسسات، خاصة بعد أن منحها القانون التشريعات الرقابية والقانونية، وأصبحت تمتلك العديد من القوى التي تمكنها من ممارسة دورها في دعم الحكومة ومراقبة المؤسسات، وطرح رأي المواطن وتمثيله في الحصول على حقوقه، والبت في تقديم رؤى تخدم العمل المؤسساتي، وتوظيف السلطة الرقابية على المؤسسات وتقييم دورها في خدمة المجتمع، حيث يؤكد جلالته على أهمية دور هذه المجالس البرلمانية "إننا نعهد إلى مجلسكم بمهمة إبداء الرأي والمشورة، في السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، فإننا نريد أن يكون هذا المجلس إطارا لجهد مشترك بين القطاعين الحكومي والأهلي". حيث يتمثل التوجيه في أحقية المواطن في إبداء رأيه من خلال ممثليه في المجالس البرلمانية العمانية، فالمواطن العنصر الأساسي للدولة وبدونه لن يكون هناك كيان قائم للدولة، لذا جاء الاهتمام به من أجل بناء وطن متكامل الأركان، فهل قامت هذه المجالس بدورها الديمقراطي؟ أم أنها أخذت الشكل العام وتطرقت إلى مواضيع سطحية؟ تظل هذه الأسئلة بحاجة إلى إعادة تأطير فكر الديمقراطية وبناء منظومة برلمانية أكثر مقدرة على تحقيق رؤى المواطن وطموحاته.

هذا الدور السياسي للمواطن في سبيل تحقيق الشراكة مع الحكومة، يترافق معه الدور الآخر المكمل للديمقراطية، وهو الدور الاجتماعي للمواطن المتمثل في تحقيق الديمقراطية كمنظومة مجتمعية يتعايش الفرد من خلالها مع المجتمع، ويتمثل في القيام بدوره في تبادل الآراء وعدم احتكار الفكر ومصادرته، والتعامل مع أفراد المجتمع من منطلقات ومحددات ديمقراطية بعيداً عن الاعتداء عليهم، حتى لو كان تحت مظلة الحرية الشخصية؛ حيث يعتقد الكثيرون أنّ الديمقراطية هي مرتبطة بنظام الحكم انطلاقا من مفهوم "حكم الشعب بالشعب" دون إدراك لمعنى كيف يمكن للشعب أن يحكم نفسه؟ ومن يتولى حكم الشعب؟ ولكن الافتراض الأقرب للديمقراطية هي كيفية توظيف مبادئها في الحياة المؤسساتية والمجتمعية لتصبح جزءا من حياتنا وممارساتنا، كما أنّ البعض يعتقد أنّ الديمقراطية مرتبطة بالحرية الشخصية، وحرية الرأي، وحرية الحياة، وينسى أنّ أهم مبادئ الحرية أنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وأنّ هناك محددات تضبط هذه الحرية، فلا توجد حرية مطلقة دون حدود.

إنّ الابتعاد عن القانون والنظام والاعتداء على الآخرين تحت مبدأ أنا حر في الحياة، هو جزء من التخلف الحياتي وبعيدا عن الديمقراطية الحقيقية، حتى إنّ بعض المثقفين في الوقت الحاضر بدأ ينادي بالحرية بممارسات تصطدم مع النظام والدين والأعراف المجتمعية، ويريد أن يتفرد بذاته ويمارس فكره ولو كان بالاعتداء على حرية الآخرين، وهنا نضيق الحوار ونأخذ مسلمات بعيده عن المعنى الحقيقي لحرية الرأي، حيث يؤكد جلالته على أنّه "لا يمكن السماح باحتكار الرأي وفرضه على الآخرين ولا يمكن في الوقت ذاته السماح بالتطرف والغلو من جانب أي فكر كان؛ لأن في كل ذلك إخلالا بالتوازن الواجب بين الأمور والذي على أساس منه تتخذ القرارات الحكيمة التي تراعي مصالح الجميع"،  فالتعاطي مع  حرية الرأي المتعصب هو جزء من البيروقراطية التي لا تقود إلا مراحل متأخرة من الرجعية، فالديمقراطية هي السبيل نحو المستقبل، وبناء أجيال قادرة على البوح بأفكارها وإبداعاتها العقلية في سبيل رقي الوطن والنهوض به، ولكن ممارسة الكبت وإغلاق العقول لا يحقق طموحات الوطن، لذا ما نجده اليوم من انتشار كبير لمنصات التواصل الاجتماعي والتي أصبحت جزءًا من محطات التعبير عن الرأي والتي يقول فيه المواطن صوته، هو نتيجة عدم وجود مجالس في العالم الواقعي قادرة على الاستماع لتلك الأصوات الوطنية.