قصة: حُلم معطّل.؛ 11

 حمد الناصري

في جلسة مُصارحة بين كاترينا وسعيد الحوز، قالت كاترينا: هل تُريد أنْ تعرف عني أكثر يا سعيد؟ هزّ رأسه إيجاباً.. قالت كاترينا: إذن، لا بد من إزالة بعض تراكمات الأفكار وإذابة الجليد، تعزيزاً للعلاقة النقية بيننا، فنحن نُواجه تحديات واسعة بمفرداتها وثقيلة بمعانيها.. المال.. الانجاب.. القدرة الفاعلة لكلا الطرفين، صُعوبات الحياة والإهمال.. هذه نقاط هي الأهم في حياة العلاقة بين الذكر والانثى إذا ما رغبا في تكوين حياة مُستقرة آمنة ومُطمئنة.. بقيَ سعيد الحوز ساكناً ولم يُعقّب.. أردفت كاترينا من هواياتي الموسيقى.. والرقص.. والغناء. أعشق المال وأكره من يقطع عليّ طريقي، فأنا خُلقت لأعيش.. سحبتْ نفساً.. ثم أردفت، قد أكون أنا جميلة وأجمل من كثيرات غيري، واستدركت، أعتقد تعرف ما أعني.. خولة وسَحر.. ولكني تعلّمت كيف أستغل تلك النعمة لأحصل على ما أريد بسهولة.. أنا وصديقاتي، قد تعاهدنا أن نكون معاً، أمّا ذلك الشاب ميلاد ابراهيم فقد تعرّفنا عليه، قبل المعرفة بك بأسبوع تقريباً، هو من بلد مُجاور لنا، لكننا جميعا من إقليم واحد متقارب، سَحر من الشام وخولة من بلاد الهلال الخصيب وأنا من بلاد بحر قزوين، حتى بشرتي تختلف عنهن، أظنّك عرفتنا جيدًا، وفي ذلك اليوم الموعود، التقينا بـ ميلاد إبراهيم وهو أقرب إلى خوله تقريباً أو هما من بلدتين مُتجاورتين، تقعان على بحر كبير.. ومنذ ذلك اليوم تفاهمنا واتفقنا على كل شيء وبدا ميلاد إبراهيم كشابْ مُتعاون ولطيف، وكل شيء ممكن بالتعاون والتقارب والتفاهم، وليس المال وحده هو بُغيتنا وهدفنا وغايتنا. لكن الحقيقة يجب أن تُقال وبصراحة؛ لا شيء ببلاش طبعًا... ثم استدركت.. أسوق كلامي لتفهم أنّ منزلة المال كبيرة وقوية.. مكسبنا قيمته في المال.. ودُول تقاتلت من أجل المال.. إذنْ، المال سرّ الحياة.. والاقتصاد اليوم هو عصب رئيس للحياة الإجتماعية، والمال لا يأتي إلا من خلال الاقتصاد، والاقتصاد أساسه وعصبه الرئيس المال.. لذا جُعلت لذّته ومنفعته فقط في الحياة.. أنظر.. المال لا يذهب معك إنْ مِتّ.. يعني ذلك أنّ نفعه في الحياة لكونه مَقصد السعادة والعيش الهانئ الرغيد.. فخُذ قدْراً منه، كلّما استطعت وبأي وسيلة.. لا فرق هُنا.. طالما المكسب هو الوسيلة.. ألم تسمع فلسفة، ماكفيلي " الغاية تبرّر الوسيلة" تلك هي قاعدة حياتية مُلهمة، بمعنى أنّه لتحقيق أهدافك لا بُد أن تصل إلى الغاية.. وهذه الغاية لا بُدّ لها من وسيلة.. وما دُمْت لديك القوة والحماسة لوصول الغاية، عليكَ بالمُمارسة التي تُلامس روحك فهي الهدف، والمشاعر المُتبادلة هي الوسيلة وأحاسيسها مُبرّرة لها.. فكل مصلحة فيها نفع، ولا بُد للنفع من غاية والغاية لا تكون إلا في الوسيلة "المصلحة " والمصلحة ـ هُنا ـ هي تلك المُمارسة الفعليّة التي تضعها في فَيْه دَلْوك ومن خلال الدّلو وتجانسها، تُحقق الغاية وهي المال.؛ والمال هنا، جاء من المكسب أيّ التجانس الفعلي لتبرير وسيلة الحصول بالمكسب ثم المال.. فضلاً عن ذلك أنا مُستعدة لأكون معك شريطة أن نحترم بعض، وحتى نجد لنا مخرجاً آخر نتفق، نتفق عليه.. ونسير في دربه.

 قال سعيد.. لا أحبّ الإهانة ولا الاستفزاز ولا السخرية، ولكلّ منا قيم وعادات وتقاليد، وأنا لا اتفق معك، إلا في ما ذكرتيه وما يخصّ المال وتعزيز مورده، ولكن بطريقته المُثلى، الصحيحة، والبعيدة عن المفسدة والخالية من شوائبها وعن كل ما يضرّها.. مُدلِّلًا على أنه ذو معرفة وثقافة: وما قُلتيه كلامٌ لا جديدَ فيه، وهو مستنبطٌ من مبادئنا وقيم المجتمع، ونلمسه في إيماننا.. وقصّة لذيذة لإخوة يوسف وما فعله يوسف من وسيلة بأنْ " وضع صُواع الملك في رحْل أخيه، وكانت غايته في ذلك هو اتهامهم بالسرقة حينما أنكروا اخوته معرفتهم به.. كله ذلك دليل على كيد الإنسان على نفسه أو على كيد أخيه الإنسان.. هزّت رأسها ولم تُبد رأياً.. وساد صمت طويل بينهما، ثم تحرّكت مدائن وتململت واستوت على كُرسيها، وظهر جذعها وبرز جسدها ودَلَق مُنزلقاً ببراءة تطفّل غير محذور، باحتْ به مشاعر كاترينا وأحسّ بها فؤاد سعيد الحوز.

بعد جلسة المُصارحة، لم يُعطي أحداً منهما توضيحاً دقيقاً ولا تفاصيل واضحة، ولكن سعيد الحوز بدا مُتعجباً من كاترينا، وفي نفسه حديث.. لماذا اهتمت كاترينا بحضور الحفلات الليلية واعتنتْ بجمالها ومظهرها، طالما لديها كل تلك المُعطيات لعلاقة مُستقرة.. أو هي تنشدها بطريقة آمنة.. وكأنّ سعيد الحوز فزع وخاف، حين تحرّكت ونظرت في عينيه، فقد حسبها أنها قد سمعت ما يدور في خُلده، فحديث النفس غالباً لا أحد يعلم بسرّه، فكيف لها ذلك؟ قالت مدائن كاترينا وهي تغرز نظرة قوية في عينيه.. ماذا لو أخبرتك عن شيء، فلا تسألني بعده عن أي شيء أبدا.. عقّب سعيد الحوز باندهاش، ما هو؟! أردفت كاترينا، شيء يُؤمن به البعض ولا يُقرّه البعض الآخر.. وكأنها تُريد أن تنقله إلى جوّ أكثر رحابة وانطلاقة وتقارب، فـ سعيد الحوز يهتم بالجانب المعرفي.. أردفت كاترينا، بغضّ النظر عمّا تُؤمن به الأديان السماوية، فمثلاً تناسخ الأرواح، أنا أؤمن بأننا خُلقنا من أرواح تناسخت، وهي جزء من عقيدة ملكوتية لا تُرى.. نحن خُلقنا بأرواح تناسخت في أجساد مُختلفة، نهايتها عيش في عالم ملكوت له روحانية لا جسدية فيها، متاعنا يُرافقنا في حياتنا، ولا تستمتع الروح إذا استقرّت في عالم الملكوت.. وإذا ما انتقلت إلى روح أخرى واستنسخت فيها وبدتْ مُستقرّة في الجسد الآخر من جنسها أو من جنس مُخالف لها، يَفنى الجسد الأوّل وتبقى الروح الجديدة طاهرة في الجسد الجديد.. بمعنى لا حِمْل ولا أوزار ولا عِلم ولا معرفة للروح المُستنسخة ولا شي يتعلّق كعاقبة عليها ولا حزن، فالروح الجديدة تعيش حياتها في غير ملكوتها، فإذا ارتقت إلى ملكوتها، استنسخت وجيء بأخرى طاهرة.

ضحك سعيد مستهزئًا من قولها، أرجوك ـ كاترينا ـ ابتعدي عن فكرة التناسخ ...إنها فكرة غير مقبولة، فكرة لا يعقلها أولي الألباب، فالبشر ليس صيداً بحرياً ولا سمكاً نهرياً تناله أيديكم ولا وحوشاً بريّة تنالها رماحكم ولا كُتباً تنالها أقلامكم تحريفاً وتزويراً ولا وثائق تاريخية حقيقية تُثبتها ، غير ما بخستها الأفكار السياسية أو دوافع اعتقادية ارتبطت بتحدّيات اجتهادية لأصحابها وتلك الدوافع اقتصرت على الثارات على جهود عُلماء اختلفوا معهم في الأفكار والدين والمُعتقد.. وكل الأفكار التي جئتني بها انتقصت من القِيَم وخلتْ الأفكار الرصينة، التي تعقل كل شي وتتفكّر فيه، وتتدبّر في فهمهِ ومعانيه، وتبدو كأنها أفكاراً لا قِيَم فيها وكأنها أوراقاً تُمزّقها صِغاركم.. إني أتساءل: لماذا نُقوض الماضي بأيدينا ونُزور تاريخها المكنون بأحبارنا ونمدّ أقلامنا بجراءة لا نحتملها يومئذ، يوماً نسأل فيه عمّا مضى.. من عملٍ وفعلٍ وزور وبُهتان واختلاف واجتهاد سِيقت إلينا عبر امتداد طويل من تمزق الأفكار وتشتّت الأفهام وسُلقت بألسنة حِداد، فكانت مديّة الاختلاف والانشقاق.
 وإن كنتم على خِلاف مع ارواحكم وتُريدون أن تتناسخ لئلا تُصيبكم معرّة وآثام من أفعالكم، فذلك شأنكم.. لكني أقول للذين يُؤمنون بالاستنساخ معكم.. انتقوا أفكاركم.. كما ينتقي أحدكم صديقاً وفياً، صالحاً.؛ فمثلاً، هل إذا ماتت كاترينا مثلاً ، تستطيعين أن تخرجي لنا من النهر في روح سمكة نهرية لذيذة مثلاً أو نراكِ دابةً فنحمل عليكِ أمتعتنا ونطلع بك الجبل العظيم بوادي نزوة، أو نستطيع أن نصطادك بنبال في إحدى مُنحدرات وادي جرفة، فتكونين بعدها روحاً خلاّقة، أو أنْ أراك في دجاجة فأذبحها وأتلذّذ بجوانحها وأرجلها.. يا لها من وجبة شهية ماتعة، لذيذة الطعم، مُريبة استنسخت من روح بشرية إلى روح طائر داجنة.. ردّت كاترينا، فرحة مسرورة، مُستبشرة، سأكون ساعتها في مرح حين انتقل بين أسنانك الخشنة، وسأبقى نتف صغيرة بين ضرسين مُفرّقة وفجّة.

 سكتت ثم تنفست الصعداء، يا سعيد الحوز يبدو أنّ الحوار قد خرج عن السيطرة، قد خرج عن إطاره الصحيح، أو أنّ أحدنا قد عرّج إلى خارج الصندوق، فبرّانية الموقف ناتجة عن اختلاف وليس عن تطابق، فإذا أردنا إثبات حِياد، فذلك هو موقف يحلّ المُشكلة ولا يُضخّمها أو يجعلها مِعْوجة.. وليس بوسعك تقبّل حوار الأفكار.. وأزيدك معلومة بأنّ ما سردته لك، من معرفة لا لَثْمة فيها ولا اعوجاج، فالأرواح البشرية هي التي تستأثر بعالم الملكوت، أما السّمك والطير فلا تتميّز بروح البشر، لذا فهي مختلفة ولها عالم آخر لا يستنسخ أبدًا، أرواح البشر هي القوة الطاهرة التي لا يملكها أحد غيرهم.. عقّب سعيد الحوز، اتركي عنكِ هذه التفاهات، ولا تتحدّثي بضحالة معرفة، رجوعك إلى حياة الملكوت، أو كما تُسمينها عالم الملكوت، ذلك العالم الأنقى يجب التسليم به تسليم مُطلق في غيبه، وأما رجوعنا إلى حياة أكثر أماناً من هذه التي تعيشينها بزمن مُقدّر، يدخل في عالم غيبي ـ أيضاً ـ لا نُدركه ولا نتصوّره ولا نتخيّله ولا حتى نعقلهُ ولا هو يتشكّل في حياة خلود إلا من خلال التسليم الإيماني المُطلق، فكل المُعتقدات الموثوقة نصّت على حياة الخلود الغيبية ونُسميها الحياة الأبقى أو الدار الآخرة ، وحياة الخلود، يا أخت مدائن، هيَ نعم ، كما تُسمينها حياة النور الإلهي أو الملكوت الأعلى .. وترتبط حياتنا بذات الجسد وذات الروح والكيان، وأمّا قولك، أنّ كل الأرواح خالدة في الملكوت وأنّ العذاب والنعيم مُبتدع.. أنا لا أتفق مع كلامك وإن كنت غير مُخَوّل بسرد تفاصيل علاقة الخلود والأرواح وأنوار الملكوت الإلهية.. لكني، أردّ عليكِ بما أعرفه فقط، نحن في عقيدتنا نُؤمن بأن الله بالغ أمره، وقاضي حوائجنا إلى الزمن الذي يُنقلنا إلى حياة الخلود، وأنّ الله أخفى أمرهُ لئلا يعلم بغيبه أحد، وكل عمل صحيح في الحياة يجد خير منه في حياة الخلود.. ولا يُمكننا الجزم بأننا سنبقى جميعاً في عالم ملكوتي، ونُؤمن ـ أيضاً ـ بأنّ مِنّا الشقي ومِنّا السعيد، أمّا عالمكِ لا دليل عليه غير كلامك.؛ كيف تتنقل الروح من جسد لآخر، هذا أمر غير مقبول وسخيف، فالروح يا بنت قزوين، لا عودة لها ولا رجعة.. وكنه الروح يخفى علينا.. وهُنا مربط الفرس فتناسخ الروح يعفي الجسد والروح من مسؤولية الذنوب وما نرتكبه من جرائم مُشينة أو فاضحة.. وفي عقيدتكم، تفعلون ما تشاؤون، وغير مُكلفون مسؤولية الأخطاء وتكرارها دافعاً لتفعلوا ما يروق لكم، وتعملوا ما يَحْلو لكم.. هذا الكلام حتى القوانين الوضعية لا تُقرّه.

قاطعته مدائن خوفاً من أن تخسره بسبب عُقدة الاختلاف في العقيدة.. ومُناقشة مثل هذه القضايا الاعتقادية، أنا لست مُتمكّنة ولا بارعة في المجال العقَدِي ومعرفتي بها بسيطة، وأرى أنّ التقييد يحتاج إلى وقت لتفنيد شروحات بعض أمر فيه.. وتحتاج إلى رجل واسع الاطلاع مِثلك ونحتاج إلى تهيئة أعمق، وإلى حكيم مثلكَ ، ذو قلب نابض وروح طاهرة.. ونحتاج إلى داهية الزمان وفطنة سعيد الحوز.
وكمحاولة منها لتغيير الموضوع قالت: طيّب خبّرني عن نظرية الأفلاج لديكم يقولون أنّ الجِن هُم من بناها. أليس كذلك؟ وكأنّ الطمأنينة قد تسلّلت إلى نفس سعيد الحوز، فهي فرصة لكي يُحدّثها عن بلدته العتيقة وعن عبقرية إنسانها، وهندسة الافلاج تُعتبر مُعجزة قومه، أهل وادي جرْفة أو وادي نزوة.. ورغم ذلك فقد تعجّب واندهش من معرفة كاترينا أدقّ تفاصيل المعلومات عن سيرورة الأفكار وحركتها وحكايات من بنائها والأساطير حولها، بَيْد أنها جاءت لتعمل في فندق فاخر، عاملة في.. معرفتها فاجأتني بما يعلمه أحد غير الباحثين والمهتمين في شأنه.. إنها تثير فضولي، وتساؤلات خطيرة حول عملها في الفندق الفاخر، واستغرب، ما الذي يدفعها أن تطرح مثل تلك الأسئلة.؟ ولماذا في هذا التوقيت؟ أثمة خبر تريد ان تُعرفني عليه بطريقة غير مباشرة، معرفة واسعة لديها.. فهل هناك من سرّ بين عملها وخبرتها وبين ما يدفعها إلى طرح أسئلة ذات معلومات دقيقة.؟ وهل حكاية الافلاج ذا أهمية لها أم هي، أسئلة جمع معلومات ولها مظانها التي لا ندركها.؛ أم ماذا تحمل في جُعبتها، بل وماذا في جعبتهم جميعاً.؟ هزّ رأسه.. نعم، جمع المعلومات عن بلدي ذي الموقع المتميز، الذي يربط بين الشرق والغرب، هذا البلد العظيم الغني بتاريخهِ وثقافته الأصيلة ، موقع استراتيجي كبير ، تربطه علاقة وثيقة وقوية الصّلة بالبحار العميقة السّبعة ، ناهيك عن افريقيا وشبه قارة آسيا المطلة على البحر العميق ، ولنا فيها خبر يقين ، فقد كان ذات يوم لنا سيطرة بحرية كبيرة في مدنها الساحلية وأنشأنا مركز بحري او ما يُعرف بميناء بحري يستقبل السفن التجارية، ونقطة استئناف وتزود بحري عابر للسفن الكبيرة والصغيرة، أو ما يعرف حالياً ، بالنقل البحري ، ولا تزال ثقافتنا مُتنوعة فيها ، مع تغيرات تاريخية حاسمة ، حدثتْ وقتذاك.
يتبع 12

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة