الرؤية المستقبلية (1)

د. صالح الفهدي

القيم والفكر

يقول جاك مونو (1910-1976) عالم البيولوجيا الفرنسي: "لا يوجد مجتمع يقدر على أن يبقى بلا شِرعة أخلاقية (توجهه) تكون مبنية على قيم مفهومة لأغلبية أعضائه، ومقبولة لهم، ومحترمة من طرفهم"، وحيث إن العالم يسير وفق وتيرة متسارعة، تداخلت فيها مفاهيم، وقيم إما مفروضة عن عمد – وهذا هو الأرجح- وإمّا عائمة، هائمة ليلتقطها من شاء عن علم أو جهل، فإنه لا يمكن لأي مجتمع بشري مهما كان له من موروث زاخر، متراكم بعطائه التاريخي، لا يتجدد في كل مرحلة من مراحل التغيير؛ لأنه مهدد بالتضعضع أمام المؤثرات التي إما أنها تتقصد إعادة تشكيل هويته/هوياته الأصيلة، وإما أن تشوهها بحيث لا تستقر له هوية، الأمر الذي يعني أنه لا يستبين طريقا واضحا للمضي، أو أواصر للتلاحم، أو أهداف للتطلع..!

ولا يداخل الشك عاقل، متبصر بأن أية رؤية مستقبلية ترسم لوطن ما لا يمكن أن تغفل عن ركنين أساسين هما القيم والفكر ذلك لأنهما روح أية رؤية تتوسم طريقها نحو المستقبل. لا يمكن لأية رؤية مستقبلية مهما كانت أهدافها عظيمة أن تتحقق دون أن تراعي القيم والفكر لأن التغيير الحقيقي هو ما يتحقق على الصعيد الإنساني الذي بدوره يقوم بالتغيير المادي.

وإذا كانت لأية رؤية مستقبلية من تطلعات اقتصادية تحظى بالاهتمام الأكبر فإن تحققها لا يتم إلا عبر تصحيح منظومة القيم والأفكار، لأن لكل تطلع قيمه وفكره إذ أنه "لا يمكن حل مشكلات اليوم بأفكار الأمس" ولا كذلك حل مشكلات الغد بأفكار اليوم. أما أن ترسم رؤية مستقبلية دون توجيه حقيقي، وممنهج في طرق التفكير، وفي منظومة القيم فذلك سيسلب الرؤية المستقبلية روحها...!

لنأخذ اليابان مثلا؛ إذ أن هذه الدولة دائما ما تعود إلى إرثها القيمي كلما تقدمت اقتصاديا، لأنها تدرك أن السر في صيانة هذا التقدم يكمن في القيم والفكر، يقول حسن الهامي:"بعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية عام 1945، حاولت الثقافة الأمريكية إعطاب الياباني بتعزيز الشخصية الفردية والقيم الفردية وبما يخالف تماما القيم اليابانية الأخلاقية والدينية في التأكيد على أهمية المجتمع والطبيعة والتناغم الجميل بينهما، لكن في عام‏1989‏ نجح اليابانيون في مراجعة البرامج التعليمية وتطهيرها من القيم الفردية المستوردة‏،‏ وأضيفت برامج السلوك والأخلاقيات بصيغة متكاملة على أن تراجع كليا كل عشر سنوات‏.‏ وقد أدخلت مادة السلوك والأخلاقيات بتناغم في جميع المواد المدرسية ونشاطاتها بالإضافة لبرنامج متخصص في الأخلاقيات يقدم ساعة كل أسبوع على مدار السنة وفي جميع السنوات الدراسية‏".

ومنذ العام 2018م، فقد غدا هذا البرنامج المتعلق بالأخلاقيات مادة مفروضة في المقرر الدراسي، مستمدا من فترة إيدو (1603-1868م) وهي آخر الفترات من تاريخ اليابان القديم القيم التي يصلح بها أخلاقيات جيل اليوم.

بيد أن الأمر لا يقتصر على استقاء الأمم من موروثها فحسب، إنما هي بحاجة إلى برمجة مجتمعاتها بما يتوافق مع فكر الغد وفقا للمقولة الشهيرة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنها "علموا أبنائكم لزمان غير زمانكم"، وهو ما يفهم منه على أن تغير العصر مترافق مع تغير القيم.

ولا يمكن توقع التفاعل الإنساني مع أية رؤية مستقبلية ما لم يهيأ قيميا وفكريا لإدارة التغير، ومواجهة المتغيرات بعقلية بصيرة، منفتحة، لأنه سيكون عندها في مأزق تاريخي أمام أحداث لا يستطيع عقله أن يستوعبها، أو نفسه أن تتدبر فيها..!

وفي مقاربة لهذا، كنا نتحدث ذات مرة عن دور الأسرة في المجتمع، فقال قائل: لماذا تلقون اللوم دائما على التعليم، لماذا لا توجهون اللوم للأسرة؟ فرددت عليه بالقول: إنني دائما ما أتساءل: من يبني الأسرة؟ هل تبني نفسها بنفسها أم يبنيها التعليم؟ فالأم مدرسة (إذا) أعددتها، و(إذا) الشرطية هذه لا يمكن تأويلها إلا بالتعليم، وأردفت قائلا: لو كان لدينا منهج تعليمي مخصص في "بناء الأسرة" ضمن المقررات التعليمية منذ عشرين عاما لكنا اليوم في غنى عن الحديث عن النقائص الرئيسة التي تعتور بناء الأسرة في مجتمعاتنا..!

الإنسان بحاجة إلى التغيير في فكره وقيمه ليتماشى مع الرؤية المستقبلية، إذ أن تغييرا دون الإنسان لن يحدث لقول الحق سبحانه وتعالى :"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الرعد/11. الإنسان هو محدث التغيير، وصانع الحدث، ومشكل المستقبل، وهو محور التنمية، وصانع التاريخ، ووفقا لذلك فإن تقصد قيمه وفكره هو السر الذي نضمن به تحقق رؤية مستقبلية ذات فاعلية ناجحة، وأثر ملموس.