من أنت؟ أنا باحث عن عمل!

د. عبدالله باحجاج

تساؤل العنوان، يُستشف منه بعدان أساسيان، آني ومستقبلي لقضية الباحثين عن عمل، ومنه- أي العنوان- نتساءل عن عدد الباحثين عن عمل في بلادنا الآن، ومنه كذلك نتساءل عن حجم الطموح الوطني إزاء الفكرة المطروحة لإنشاء مركز وطني للتشغيل، والذي لم يرَ النور حتى الآن وتأخرت ولادته طويلا، وتأخيره لا يُعطي الانطباع بمستوى الإحساس بالإشكالية التي يطرحها العنوان، لكن يبدو أنه الآن سيكون قريبًا. من هنا نتساءل، هل سيكون المركز المقترح صاحب قرار وجامع وشامل للتعدد المؤسساتي لملف التشغيل أم سيضيف حملا مؤسساتيا جديدا فوق الثقل الكبير؟ وهل ستغلب عليه المركزية أم سيُراعي البعد اللامركزي لقضية الباحثين عن عمل، وخصوصياته الإقليمية؟

تساؤل العنوان، والإجابة عليه، يضعان قضية الباحثين عن عمل كتحدٍ أول لمرحلتنا الوطنية الراهنة، فعددهم في تزايد مُقلق، وعندما حاولنا معرفة العدد الفعلي للباحثين عن عمل، لم نجد إحصائية رسمية دقيقة وقطعية، فهناك من يحصرهم ما بين 51 إلى أكثر من 70 ألف باحث، ومهما يكن من أوجه هذا الاختلاف، وعدم تمكن الجهات الحكومية من تقديم إحصائية فعلية عنهم، إلا أنَّ لدينا مؤشرا رقميا يمكن أن نبني عليه رؤيتنا للعدد، ويجعلنا بسهولة نستشف منه الآفاق المستقبلية المتوسطة المدى للقضية، وهو أن عدد الباحثين عن عمل يزيد بمعدل 44 ألف باحث من الخريجين من مختلف الدرجات العلمية، كما أوضح ذلك أحد أعضاء مجلس الشورى أمس الأول. هذه الرؤية العددية الموضوعية، تدحض بعض الروايات الحكومية التي كانت قبل عام تحصر عددهم بـ50 ألف باحث، ومن خلالها تم صناعة قرار بضخ 25 ألف فرصة عمل، وتم تصغير القضية بما تبقى من نصف العدد فقط، غير أن الواقع بخلاف ذلك، فكلما سألنا شابًا عن هويته، يجيب، أنا باحث عن عمل، تتعدد مساحات الأمكنة للتساؤل، غير أننا نتلقى الإجابة نفسها، وهي "أنا باحث عن عمل" فأين ذابت فرص العمل الممنوحة للشباب؟ مع إيماننا بوجود اختلالات بنيوية في التطبيق، وقد أشرنا إليها في عدة مقالات، إلا أن العدد الكبير للباحثين عن عمل لا يمكن أن يستوعبه حجم المعروض من فرص العمل.. فكيف إذا ما عرفنا الآن، أنَّ عدد الباحثين في حجم ذلك التزايد السنوي الكبير؟

لذلك، لا يُمكن الاستمرارية في نفس المؤسسات والآليات والمكانيزمات المتعددة والمختلفة، والمستقلة عن بعضها البعض، لأنها تتحمل مسؤولية هذا التراكم العددي باختلالاته العميقة، ولأنَّ إدارة هذا الملف تحتم إعمال الفكر بكل شفافية وموضوعية لإيجاد فرص عمل عبر الإسراع الممنهج نحو تقليص عدد الباحثين، وجعلها في المستويات الآمنة والمطمئنة، وهذا لن يتأتى لبلادنا إذا ما استمررنا في إنتاج الفشل، ما يُحتم التفكير خارج الصندوق، وعدم التسليم بكل المفاهيم السلبية، وبناء مفاهيم جديدة، لعل أبرزها انعكاس النمو والتطورات الاقتصادية في بلادنا على حل القضايا الاجتماعية التي تأتي في مُقدمتها قضية الباحثين عن عمل، وهذه مسألة غائبة الآن، وإن وجدت فإنِّها ضمن السياقات التلقائية وليست المخططة، والفارق بينهما كبير. لذلك، لن نتفاءل بأي نمو أو تطور ما لم ينعكس على حل الكثير من القضايا الاجتماعية، بل إنَّ خطورتها سترتد على النمو والتطور الاقتصادي في النهاية.

من هنا، نعتبر مقترح إقامة مركز وطني للتشغيل خطوة تعبر عن الاستدراك السياسي لقضية البطالة قبل أن نسلم برحمها الاقتصادي، ومهما يكن، فإنَّ نظرتنا إليه سياسية بامتياز، وفي ظل غياب المعلومات عن هيكلية المركز وصلاحياته، سنظل هنا نقدم رؤيتنا عنه في ضوء مجموعة تجارب مماثلة تعانق عنان السماء عند ولادتها، لكنها لما تنزل للأرض، لا يبقى إلا شكلها فقط، لن نخصص أسماء بذاتها، وأنا سنجعل الفكر يستدعيها في ضوء الفشل في قضية الباحثين عن عمل حتى الآن.

وهذا الفشل ليس بسبب محدودية فرص العمل في بلادنا، فهذا مفهوم خاطئ، وخطأه ناجم عن التفكير الذي لم يخرج من الصندوق، وإنما مرده إلى العقول المتعاقبة التي تحصر فكرها داخل الصندوق، لذلك، نقول إن إقامة مركز وطني للتشغيل يقتضي أولاً التخلص من التعددية المؤسساتية، وجعل المركز حصريًا مسؤولا عن ملف الشغل في القطاعات المدنية والخاصة والعسكرية، وممكنا بكل أدوات الفكر والتخطيط والدراسات والتنفيذ والمساءلة، وأن يكون قائده برتبة وزير، ويختار من خارج رحم اللوبيات وبمواصفات قياسية، وأن يكون المركز مرتبطاً بالمؤسسة السلطانية مباشرة- كما اقترحنا في مقالات سابقة- وأن يكون له فروع إقليمية، تتوفر لها الإمكانيات نفسها المتوفرة في المركز من الدراسات والتخطيط والتنفيذ والمساءلة، فعهد المركزية الجامدة قد ولى، ولم يعد صالحًا لدول ذات مساحة سكانية كبيرة كبلادنا، وذات ثقل ديموغرافي بخصوصيات مختلفة؛ حيث يختص كل فرع استقلالا بالحدود الترابية لمحافظته في ظل التكاملية التي طرحناها سابقاً، وأن يكون اختيار رؤساء الفروع بنفس مواصفات اختيار الرئيس، ونجد أنفسنا هنا مجددا متأثرين بتجربة حماية المستهلك، فمن أين تم إنتاج رئيسها؟ وكيف تمكن من الاستعانة ومن تطوير أطرها وكوادرها، كما ذكرنا في مقال سابق؟

وأول ما ينبغي أن يحطمه المركز من مفاهيم ضيقة محدودية فرص العمل في القطاعات الحكومية والخاصة والعسكرية، فهناك مشاريع اقتصادية ضخمة محلية وإقليمية وعالمية قد استقبلتها بلادنا مؤخرًا، فما انعكاساتها على قضية الباحثين عن عمل؟ وهناك موانئنا البحرية المشرفة على البحار المفتوحة، فما هي انعكاساتها على قضية الباحثين عن عمل؟ وهناك الموقع الجيواستراتيجي الذي لا يقدر بثمن للعالم الجديد المتجه نحو القارة الأفريقية، فكيف وظفناه لكي يكون له انعكاس على قضية الباحثين عن عمل؟ وهناك الحاجة إلى التجنيد وفتح مجالات العمل في القطاع العسكري، كيف لا نفكر فيها ضمن التفكير خارج الصندوق؟ ولو فتحنا نافذة صغيرة على القطاع العام، فسنجد الآلاف من فرص العمل فيه، فمثلاً، كم موظف يحال للتقاعد سنويا؟ سنفتح هذا الملف قريبًا.

ما ينبغي قوله أخيرًا، إنّ خيرات وإمكانيات بلادنا المتعددة لن تعجزنا عن تأمين حق العمل لشبابنا في ظل تعداد سكاننا الصغير، يمكن أن تستوعبه شركة أو شركتين كبيرتين لو خططنا من منظور انعكاسات مقومات بلادنا سالفة الذكر، ومن بينها المشاريع الاقتصادية الكبيرة على قضايانا الاجتماعية كالباحثين عن عمل، فهل ننتظر من المركز الوطني للتشغيل القيام بهذه الأدوار الوطنية؟ سنتفاءل رغم أنَّ تأخير الإعلان عن إقامته يطرح الكثير من التساؤلات، سنتفاءل لأننا وصلنا لإشكالية متصاعدة يُعبر عنها التساؤل، من أنت؟ أنا باحث عن عمل، ورغم ذلك، شبابنا متفائلون من جهتهم، فارتباطهم بالأرض، واعتمادهم المتأصل على الوطن، ينتج في نفسياتهم ذلك التفاؤل.. فهل سنجعل عام 2019 عام الشغل للشباب العماني؟