العدل في الأرض.. إرادة شرعية أم إرادة كونية؟!!


كان هذا الحوار بيني وبين صديق من ذوي الأرواح الطاهرة الحالمة، الذين يأبون إلا أن يمارسوا هذه الحياة بهذه الفطرة السوية النقية، دون أن يتكلفوا لأنفسهم عناء المواءمات والمداهنات والمصانعات ليستطيعوا التجديف وسط أمواج الزيف العاتية؛ الذين يقول عنهم الفيلسوف (باسكال):" لا شك أن أكثر الضمائر سموا ، هي بالضرورة أعمقها شقاء " ، سألني: هل للعدل وجود في الأرض، أم إنه قيمة إلهية وضعت للحكم بين الخلائق في الآخرة؟! فقلت: لاشك أن للعدل وجود في الأرض، ولابد أن يكون كذلك، وعليه قامت السموات والأرض "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9).الرحمن"، وبه أمر الله الخلق ، وأرسل من أجله الرسل وأمرهم به " َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25). الحديد"  .. فقال : فأين هذا العدل في الكون إذن؟، قلت : إنه نسبي ، لا ينبغي أن يكون متحققا كما أريد له ، فقال : حتى هذه النسبية لا وجود لها ، ولا بد أن تكون هذه القيمة لا وجود لها إلا في الآخرة..
وتوقفت أدير الكلام في رأسي، وأعيد طرح فكرة صديقي لأعيد معها قراءة الموضوع بشكل عقلي متدبر بعيدا عن نزعات العاطفة التي تميل بالإنسان ذات اليمين وذات الشمال وتستهوية حسب ما يعتريه من حال البسط والقبض، أو السعادة والتعاسة ؛ فهي حالات لا ينبعي الانصياع لحكمها ، ولا الركون إلي ما تأتي به القرائح وقتها.. إنها هي أشبه ما يكون بما يلم بالشعراء والأدباء من لمم فتفيض به قرائحهم مزيجا من الواقع والخيال.
دلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
//
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
//
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
//
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
وتساءلت: هل الله الخالق أراد للعدل أن يكون فكان(فرضا وقدرا) ، أم أراده شرعا وحكما بين الناس فجحده البشر وأزهقوه بما أفرطوا وأسرفوا فيما بينهم من الظلم والجور.. وبهذا كان بعضه وضيع بعضه ؟!!
ومن مدارسة الأمر كما يحكي عنه القرآن ويفسره المفسرون وأهل العلم والرأي ، وإمعان النظر فيما يستقرأ من مرادفات الحياة نكاد نستخلص: أن العدل قيمة من منظومة  قيم الخير السامية التي أراد الله وجودها في الكون ، والتي تكفل للبشر قيام الحياة فيما بينهم بسلام واطمئنان ، وتجنبهم ويلات الصراع التي تتأتى من الجور والظلم والبغي لبعضهم على بعض، كما أنه جعل هذا من صميم الفطرة التي يهتدي إليها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر من البشر.. فحاولوا أن ينشدوا هذه القيمة عمليا أو يسطروها في دساتيرهم وقوانينهم لما اجتمعت عليه عقولهم ومذاهبهم، على أن غياب مثل هذه القيمة أوضياعها هو ضياع نسبي للخير في الأرض ، وإزهاق للفضيلة ومدخلا لتفشي الظلم والفساد بين البشر، مما يؤذن كذلك بضياع الحضارة المادية وفناءها، لما سينشأ بين البشر من صراع تسود فيه شريعة الغاب فيأكل القوي الضعيف، وتقوم حياة البعض على حساب فناء الآخر.. ولو أننا نجد في شريعة الغاب ما قد يحكمها من بعض سلوك الفطرة السوية التي تحافظ على التوازن البيئي واستمرار الحياة وعدم الفناء.
وكون البعض لا يستطيع إدراك قيمة من القيم، أو يلحظ وجودها لما قد يحط بساحة نفسه مما يرى من مصائر المعذبين والمهجرين والمشردين في مشرق الأرض ومغربها ــ خاصة في وطننا المتداعي المتهالك الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي من يدعون محالفتهم أو مصادقتهم ــ فهذا لا يعني أنها غير موجودة ، وكون البعض كذلك يقر بوجودها المطلق فهذا لا يقطع بصدقه ، إنما الأحكام تجري على حسب ما يعتري كل منهم ، ومايدور بساحة نفسه ومدركاته لما يموج حوله من أحداث .. كما قال المتنبي :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد    وينكر الفم طعم الماء من سقم
وأما العدل الذي وضعه الله كقانون للبشر، إن لم يكن شرعة سماوية فلا بد أن يكون فضيلة أرضية .. إن لم يكن سماويا فكان أولى بهم أن يخترعوه لكي تستقيم الحياة على حال، وبقدر ما يختل ميزانه يختل قوام الحياة بين البشر، كما قال صاحب الظلال في تفسير قوله "والسماء رفعها ووضع الميزان" :" هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة وحب الذات. فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة. «لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» .. فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته، لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء".
وقال الفخر الرازي : "وأما وضع الْمِيزَانَ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهِ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ وَذَكَرَ أَخَصَّ الْأُمُورِ لَهُ وَهُوَ الْمِيزَانُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيدِ: 25]  لِيَعْمَلَ النَّاسُ بِالْكِتَابِ وَيَفْعَلُوا بِالْمِيزَانِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الْكِتَابُ"
لكن الله تعالى قد أراد العدل إرادة (شرعية) بمعنى أنه أحبه ورضيه لخلقه وأمرهم به، ولا يقتضي ذلك أن يكون العدل محققا على الوجه الأكمل ، فالشرع من الله بالنسبة للبشر هو أمر اختياري من الممكن أن يمتثلوه أو يدعوه ، وهم محاسبون عليه في الآخرة على تحقيقه أو تضييعه ، وقد جعل سبحانه لتطبيقه أثرا يلمسه الناس، به منفعتهم وصلاحهم في دنياهم ومعاشهم ، وجعل في تركه فسادا يتفشى فيما بينهم وإهلاكا لمكتسبات العقل والفكر والحضارة.. ولو أراده إرادة (كونية ) قدرية لكان محققا بين البشر رغبوا بذلك أم كرهوا، ولنفذت مشيئته فيهم كما أراد" إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) الشعراء"، " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)يونس"، لكنه أراد أن يكون ذلك احتكاما منهم إلى عقولهم واهتداء بالفطرة دون خضوع أوإجبار، والعقل يهتدي بفطرته إلى حجية الشرع فيرى في امتثاله خيرا ، ويرى في تركه الشروالهلكة.. ولو شاء الله لما حال حائل بينه وبين نفاذ مشيئته في خلقه .
إن أمرالله بالعدل وشرعه في القول فقال: " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)الأنعام"، وأمر بالعدل في الحكم " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) ، وأمر بالعدل في الميزان " أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9).الرحمن" ، وأمر بالعدل حتى مع من نعاديهم أو نبغضهم حيث تميل النفوس مع أهواءها وما يسيطر عليها من ضيق يصرفها عن الحق فقال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة "، وأمر بالعدل والإحسان فقال"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)النحل".
 والله حين خلق الإنسان وعلم ما يعتريه من ضعف ، وعلم ما يرتاد نفوس البشر من نزغات الشر والطمع والظلم والجور، مما يحيد بهم عن صراط الفطرة السوية، فجعل ميزان العدل لهم منارة ومرجعا يحتكمون إليه حين يختلفون ، ولكنهم في غمرة صراع الحياة واحتكام الأهواء، وتسلط قوى الشر واجتيال الشياطين تنجرف بهم الفطر عن جادة الصراط ، وتنزاح بهم صراعات الأهواء عما فيه رشدهم .. وعلى قدر ما ينجرف بهم تيار الصراع عما شرع الله لهم ، وما وضع لهم من القيم، بقدر ما يؤذن ذلك بحلول العقاب من الله حيث يقول " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)يونس"، قال القرطبي" أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعَاطِي الْحُقُوقِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِالْكُفْرِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِاللِّوَاطِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ أَقْرَبُ إِلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الشِّرْكِ فِي الْآخِرَةِ أَصْعَبَ.
ولا تتحقق العدالة المطلقة إلا بوجود (العدل المطلق) الذي يحيط بكل شيء علما ، والذي يتنزه عن كل نقص ويتصف بكل كمال فلا تعتريه الأغيار ولا تجري عليه سنن الليل والنهار، هو القوي القادر أن يقيم العدالة على كل جبار عنيد، يقتص منه لكل ضعيف مهضوم مظلوم.. ذلكم هو الله الذي جعل الحياة محط اختبار للقيم والفضائل "ليبلوكم أيكم أحسن عملا"، أما عنده في الآخرة " لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب"، " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)الأنبياء " ، وكل مرده إلى اليوم الذي لا مفر منه حيث تجزى كل نفس بما كسبت، ويوفى المغبون بحقه من الغابن " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)التغابن".
ولو قد كان في الإمكان تحقيق العدل على الأرض كما ينبغي له ، لتحولت نفوس البشر إلى ملائكة وما كان وجود للشر على الأرض، ولعمت الفضيلة حتى تحولت الحياة على أديم الأرض إلى جنة الخلد ، ولما كان هناك حاجة إلى النعيم أو الخلود والجنة والنار.. ولكن الصراع في الكون حتمية كونية "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)يونس"، لما جبل عليه البشر من اختلاف الطباع والأطماع والنفوس والجبلات ، والحياة تصفو وتكدر بقدر ما تقترب هذي النفوس أو تبتعد عن وسطية الفضيلة ، فإذا أزهقت الفضيلة كلها كان هذا إيذانا بحلول النقمة وفناء الكون، لأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق.. ولا يزال في الحياة أولوا بقية من أصحاب الفضائل والقيم يكونون للأرض أمنة من العذاب وإمهالا من حلول النقم " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) هود".

 

 

تعليق عبر الفيس بوك