اكتشافات الرويلي وما قبلها وما بعدها!

 

د. عبدالله باحجاج

ربما على مؤسسات الدولة الانتقال الآن من ردة الفعل إلى الفعل "الرادع" حاضرا ومستقبلا في قضية الشهادات الوهمية، فما تمّ كشفه حتى الان، وتداعيات انكشافاته على صعيد واقعنا العماني، يحتم على الحكومة التدخل بقوة بعد أن لاحظنا الإغراق المؤسساتي في مرحلة الصدمة والتعاطي مع الانكشافات كمحاولة للتبرير أو التنصل من المسؤولية وتبعاتها، رغم أن اكتشاف الشهادات المزورة في بلادنا لم تكن مؤخرا مع اكتشافات الدكتور موافق الرويلي فقط - رغم أهميتها - وإنما سبق لوزارة التعليم العالي عن اكتشفت عام 2016 عن 1250 شهادة مزورة، وتمت إحالتها للادعاء العام.

هذا يعني أنّ قضية الشهادات الوهمية متغلغلة في بنية مؤسسات الدولة، مما يحتم من الدولة نفسها الآن، الانتقال إلى الفعل الرادع، ورغم أنّه سيكون متأخرا، لكن أن يأتي الآن بعد اكتشافات الرويلي أفضل من ألا يأتي اطلاقا، وقد كان مشروعا عام 2016 بعد اكتشاف ذلك العدد الكبير، خاصة وأن التزوير طال مهنا ووظائف حساسة جدا، ولها خطورة بالغة على أرواح الناس مثل الطب والتمريض والهندسة، خاصة أن التزوير طال مسؤولين كبار- وفق تحقيق قديم منشور للزميل عاصم الشيدي- فما مصير هذه الحالات المكتشفة؟ بمعنى هل بتّ فيها القضاء العماني؟ وهل أدين أصحابها بالجرائم أم تمكنوا من الإفلات؟ وكيف لم تحظى بالاهتمام الإعلامي؟ تأملوا معنا العدد الكبير المكتشف قبل ثلاث سنوات، وتأملوا كذلك ماهيّة الشهادات المزيفة، فلماذا لم تثير بداخلنا إلا اكتشافات الرويلي الأخيرة؟ ربما لو صاحب اكتشافات داخلنا الحسم والردع والإعلام الجماهيري بها، لكنا قد حددنا من هذه الظاهرة، ولربما تكون اكتشافات الرويلي تعزيزًا لحملتنا الداخلية، أي ردة الفعل وليس الفعل، ومهما يكن لابد من شكر الرويلي على جهوده الخليجية الرامية إلى الانتصار للشهادات العلمية وأصحابها، وتنظيف البيت الخليجي الواحد من حالات الانحراف والانحلال الأخلاقي، ومن تداعيات الشهادات المزورة على صحة الإنسان واقتصاده وأحلامه.

لكننا نصر هنا، على استعادة الفعل المؤسساتي بعد انكشاف حجم وماهية الشهادات المزورة في بلادنا من الداخل والخارج، فليست الطريقة المثلى تكمن في التعاطي الإيجابي مع ما تظهره اكتشافات الرويلي فقط رغم أهميتها، مثل ما أقدمت عليه كلية شناص مؤخرا التي قامت بتسريح صاحب شهادة وهمية- رغم أهمية خطوتها- ورغم حالة التفسير التي بادرت بها جامعة ظفار بشأن إحدى منتسبيها، فكلنا نعلم، كيف تتم عملية إحضار الأساتذة الأجانب للكليات التقنية، وقد تناولناه في مقال خاص بعنوان "شركات تتاجر بالأيدي العاملة" مما تظهر مسألة التجاوب مع انكشاف الشهادات المزورة، مثل مريض يذهب للصيدلية ولا يعرف سبب مرضه، لذلك نطالب الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي نراها من منظوري، الأول تعزيز حملة اكتشافات "هلكوني"، والثاني معالجة الدولة المُستدامة، حتى لا تتكرر هذه الظاهرة، وحتى نرد الاعتبار للشهادات العلمية، وحتى نبعث برسائل ردعية لكل من يملك المال، ويعتقد أنّه به، يمكن شراء كل شيء حتى العلم الوهمي.

المنظور الأول: تعزيز مسار اكتشافات "هلكوني"؛ وهذا ينبغي أن يأتي من خلال إرسال منشور حكومي شديد اللهجة وبصورة عاجلة إلى كل مؤسسات الدولة المختلفة، الحكومية والعمومية والخاصة، تحملها على الإسراع في آجال زمنية محددة إلى معادلة كل شهادة عملية يعمل أصحابها فيها، ولم تعادل من قبل دائرة معادلة المؤهلات التابعة لوزارة التعليم العالي، رغم وجود قانون يجبرها على ذلك، لأنّ الهدف الآن، تنظيف داخلنا من الشهادات الوهميّة والمزورة، فلا يعقل أن يكون هناك ثلاثة أرباع الوافدين من حملة الشهادات العلمية "مزورة"، حسب ما أفاد به مسؤول حكومي.

كما لا يعقل أن يكون حملة الشهادات العلمية من العمانيين دون عمل بسبب هؤلاء الوافدين، فهذا المنظور يحتمه السياق الوطني من هذا الاعتبار والخلفية، وكذلك من اعتبار آخر ومهم، تفتحه انعكاسات شراء الشهادات العلمية، فمن يقدم على شراء شهادة علمية، فهو بذلك يفقد أهم المبادئ الأخلاقية، مما قد تتأثر به وظيفته، فكيف سيدير مؤسسة أو يتولى أمانة أو يقاوم إغراء فاسد، وهو فاقد القيم الأخلاقية؟ وبالتالي هذا يستوجب فتح ملف كل راشٍ أو مزور شهادة في إطار الوظيفة التي من خلالها استحق بها الشهادة العلمية، لربما يفتح لنا ذلك ملف فساد كبير.

من هنا، نقترح تشكيل لجنة وطنية تقوم بالبحث والتفتيش داخل مؤسسات الدولة العامة والخاصة وذات النفع العام بعد انقضاء مهلة معادلة الشهادات التي لم تعادل من قبل دائرة معادلة المؤهلات، وتتعامل معها قانونا، وهو تحريك الدعوى العمومية على صاحبها والشركة التي يعمل بها.

المنظور الثاني: المعالجات الدائمة (المستدامة). ونقترحها أن تكون من جزأين، إحداهما إحالة كل مؤسسة يكشفها "هلكوني" إلى القضاء مباشرة، لمخالفتها القانون، فمسألة المعادلة في بلادنا إجبارية في إطار القانون الحالي– كما كشفها مصدر حكومي– فلماذا لا تلجأ كل المؤسسات إلى معادلة الشهادات أو طلب شهادة المعادلة من أصحابها قبل توظيفهم، هنا مخالفة قانونية صريحة، ومن ثمّ لابد من تحريك الدعوى العمومية على كل المؤسسات سواء تلكم التي استجابت مع انكشافات "هلكوني" وقامت بتسريح المزورين أو غيرها الصامتة. لأنّ هذه المؤسسات خالفت القانون، وهذا هو الأهم، وهو الانتصار لهذا القانون، لأنّ هناك تداعيات ناجمة عن توظيف أصحاب الشهادات الوهمية في مناصبهم ومواقعهم الوظيفية، وبالتالي، لا ينبغي الاكتفاء بالتسريح فقط، اعتداد بالقانون من جهة وكوسيلة ردع تسبق وتعطي للمنظور الأول سالف الذكر صدقية التوجه، ومصداقية النهج الجديد.

نعلم أنّ ظاهرة الشهادات الوهمية تشمل أشخاص من بني وطننا، فلسنا ملائكة، فنحن بشر نتأثر كغيرنا، وقد يخرج البعض عن منظومة القيم والأخلاق لعدة اعتبارات، منها استسهال الأمور وغرور المال وانحيازا لمظهرية مدفوعة الثمن، وهذا يستوجب الردع من الدولة مهما كانت مستويات المتورطين، لأنّ مرحلتنا الوطنية في ظل أجندتها الجديدة وتحدياتها الداخلية والخارجية، تحتم إقصاء كل معرقل وغير كفء لمنصب أو مهنة أو مهمة، ولن تتمكن بلادنا من تحقيق أجندتها الكبرى لتحضير بلادنا لاستحقاقات عام 2040 ما لم تكن نخبنا وفاعلينا ذات كفاءات علمية ومهنية مستحقة وتتمتع بنزاهة واخلاق عالية.. فهل سنفوت الفرصة الثانية بعد ما فوتنا فرصة اكتشافات 2016؟